مساءلة للعالمانية

سؤالان و جوابان حول العالمانية

سؤالان و جوابان :

فأما السؤالان:

  • هل العالمانية دين؟
  • هل العالمانية كفر في الإسلام؟

——

الجوابان :

الجواب الأول :

” ثم يعالج الباحث قضية شائكة أخرى في الحكم الشرعي للعالمانية، ألا و هو كون العالمانيّةِ ديناً و هي نتيجة استندت على حَبْكِ عددٍ من المقدّمات و هي :

1/ كلمة دين لفظ سامي مشترك بين العِبريّة و الآرامية و السُّريانيّة و الآشوريّة و الحبشيّة و العربيّة و مادتها متحدة على الخضوع و الالتزام بالتوجيه، و جمع ذلك ابن فارس في أنها جنس من الانقياد و الذل.

2/ و جمع محمد دراز معناها المعجميّ في ثلاثة معانٍ :

أ-الملك والتصرف.

ب-الخضوع و الطاعة.

ج- المذهب و المعتَقَد.

و أضاف المودوديّ معنًى رابعاً و هو : المحاسبة و الجزاء و العقاب.

3/ الدين في الإطلاق القرآني يطلق على الدين الحق و الدين الباطل مثل قوله تعالى : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}

فالإسلام هو الدين الحق، و لكن هذا لا ينافي كون غيره ديناً

فكل ما تواضع عليه الناس من منهج حياة يسمى ديناً و لو كان خِلواً من المُعطى الغيبي و السند السماوي.

4/ هناك خلل في التصور لبعض المصطلحات الشرعيّة بقصرها على بعض أمثلتها و قطعها عن بقية الأمثلة المتضمنّة لها مثلاً : الإله هو الصنم فقط، و الرب الذي يخلق فقط، و العبادة هي التنسّك و الصلاة فقط، و الدين تعني كلمة :”Religion” فقط، و الطاغوت هو الشيطان فقط، و هذا قصور في الدلالة له تَبِعات كبيرة في التصور العقدي.

فكلمة ” الدين ” قصرها الناس على “Religion” و هي ذات جذر لاتيني :”Relego” أي تكرار القراءة، أو من الجذر : ” Religare” أي تجديد العقد، أو من الجذر : ” Res-legere” أي متعلّق باجتماع.

أما اصطلاحاً فهو مفهوم غامض في الغرب و لهم ثلاثة مسالك في تعريفه :

-المسلك الماهوي الذي يعرّف الدين بجوهره.

-المسلك الموضوعي الذي يعرّف الدين بالمشترك بين الأديان و هو الوجود الإلهي و الغيبي.

-المسلك الوظيفي و هو يعرّف الدين بما يقدّمه من خدمة المجتمع أو الفرد.

لكن “موسوعة الأديان” الشهيرة عرّفته بـ: “تنظيم الحياة حول الأبعاد العميقة للتجربة و هي مختلفة في الشكل و الاكتمال و الوضوح طبق الثقافة المحيطة”

بالمقدمات الأربعة السابقة يخلص الكاتب إلى أن العالمانية:

– دينٌ شرعاً؛ لأنها قانون يُرتّب معايش الناس انطلاقاً من نظرة كونيّة في ” الحقيقة المادية” و” المنفعة”.

-دينٌ معجمياً، كما صرّح بذلك معجم “مريام وبستر” الكلاسيكي، و معجم ” المسيحية” في أمريكا، و كما في “الموسوعة الفلسفية HarperCollins Dictionary of Philosphy” حيث قسّمت الأديان لأديان فوق الطبيعانيّة “Supernaturalism”، و أديان إنسانيّة ” humanistic ideals” و ألحقت العالمانية بالقسم الثاني منهما.

– دينٌ عند أنصارها، كما سمّى عالم الاجتماع الشهير أوجست كانط في القرن التاسع عشر مذهبَه في الحياة و المعرفة بـ : ” La religion de lhumanite. – دين الإنسانيّة”، و كذلك عبّر بكلمة ” دين ” إرنست رينان، و روبرت ج. إنجرسول، و جون سيلر بروبكر، و جون ديوي، و بول كرتز و هم من رؤوس العالمانية.

-دينٌ عند مخالفيها من النصارى، كما كتب الزعيم الإنجيليّ الأمريكيّ لهاي في صراع الأصوليين مع العالمانيين و انتهى بوصف العالمانية بأنها دين، كما كتب اللاهوتي كوكس و وصفها بأنها دين.

-دِينٌ قانونياً، ففي عام ١٩٦١م في هامش المحكمة الأمريكيّة أشارت إلى كون العالمانية ديناً من الأديان غير التأليهيّة، كما أبدت ذلك في ١٩٦٣م و ١٩٦٥م.

و عليه فالعالمانيّة دين شرعاً و معجمياً و قانوناً و عند أنصارها و مخالفيها، و هي في التصور الإسلامي دين يتصف بوصفين :

1/دين إلحادي : فالإلحاد في الشريعة وصف أوسع من الاصطلاح الحادث و هو نفي وجود الله فقط؛ فقد قال تعالى : {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – : “الإلحاد في أسمائه هو العدول بها و بحقائقها و معانيها عن الحق الثابت لها”، و قد مرّ إلحاد العالمانية في كلمة التوحيد و أقسام التوحيد و حقائق الإيمان و الشهادتين.

2/دين شركي : لأنها جعلت من الإنسان شريكاً لله في التشريع و السلطان، و قد قال الله تعالى : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

و قال تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} و عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب, فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك ! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في ” سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله} ، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: ( أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه, ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟) قال: قلت: بلى! قال: (فتلك عبادتهم!).

فالعالمانيّة تمارس شرك الطاعة في إسناد التحليل و التحريم لغير الله. “

الجواب الثاني :

” يُعتبر هذا الفصل الثَريّ من مميزات هذه الأطروحة ” العالمانيّة طاعون العصر”؛ إذ فيه رصد شرعيّ دقيق للاشتباك العالماني مع قيم المعتقد الإسلاميّة و هي الغاية المقصودة من البحث بِرُمّته بعد التوصيف اللغوي و الدلالي و الواقعي للعالمانية بقي الحكم الشرعي عليها؛ فالحكم على الشيء فرعٌ من تصوّره.

يبدأ الباحث برصد العلاقة العالمانية مع أعظم كلمة في التصور الإسلامي العقيدة و هي : شهادة التوحيد ” لا إله إلا الله ” و التي ترسانة النجاة يوم القيامة، و مُحرّك الإيمان كما قال تعالى : { فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، إلا أن هذه الكلمة طالها شبح التأويل الكلامي المعروف في التراث الإسلامي فحُرِّف معناها لـ : لا ربّ خالقٌ إلا الله !، و لو كان هذا معناها لأسلم كفار قريش؛ إذ كانوا كما قال الله تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} و هو معنًى متواتر مستفيض عنهم في حكاية القرآن لمعتقدهم المأفون؛ لذلك فالمعنى السُّني لكلمة التوحيد هو : لا معبود حق إلا الله، فهو معنى مستحضر لإخلاص العبادة و الطاعة و الانقياد لله تعالى وحده، و لا تقوم شهادة التوحيد إلا بالكفر بالطاغوت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ، وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ) و الطاغوت بحد العلامة ابن القيم- رحمه الله تعالى – تخلص لثلاثة :

1/ طاغوت حكم.

2/طاغوت عبادة.

3/طاغوت متابعة و طاعة.

و عليه فيتضّح تنافر العالمانية مع شهادة التوحيد في كونها طاغوتَ حكمٍ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} و يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – : “

ذمّ المدّعين الإيمان بالكتب كلها، و هم يتركون التحاكم إلى الكتاب و السنة و يتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظّمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيراً ممن يدّعي الإسلام و ينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك و غيرهم “

ثم يبحث الكاتب أكثر في تناقض العالمانية مع بِنية المعتقد الإسلامي حول أقسام التوحيد الثلاثة :

1/ الربوبيّة المقتضية للخلق و الأمر كما قال تعالى : {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} و الأمر يقتضي الأمر الكوني النافذ : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، و الأمر الشرعيّ المطلوب {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}؛ و عليه فمنازعة الله في السيادة العُليا و التشريع المطلق ضربٌ من المصادمة لصريح توحيد الربوبية.

2/ توحيد الألوهيّة : و هو متضمن لتوحيد العبادة و العمل و القصد و الإرادة :{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}، و هو حقيقة دعوة الرسل و خلاصة الأديان. بينما ترفضُ العالمانيّة إسناد الحكم للمتعالي بل تُألّه الإنسان فرداً كان أو مجتمعاً كما قال عالم الاجتماع دوركهايم : ” إن المجتمع بالنسبة لعُبّاده كالإله لعُبّاده “.

و وجه آخر لتعارض العالمانية مع توحيد الألوهيّة هو توحيد القصد لله و تحقيق رضوان الله بينما التصور العالماني بجعل الأهواء و الأفكار هي المُرادات و الغايات؛ فقطب رُحى التصور الإسلامي للوجود في وادٍ و العالمانية في وادٍ آخر !

3/توحيد الأسماء و الصفات : و هو يقوم على وصف الله بما وصف به نفسه و وصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم- من غير تعطيل و لا تحريف و لا تمثيل و لا تكييف.

و تستلب العالمانية اسم الله ” الحَكَم”؛ بتجويزها الحكم للإنسان و أنه لا معقب لحكمه إلا هو و في الحديث النبوي أن النبي – صلى الله عليه وسلم- غيّر كُنيةَ الصحابي الجليل من أبي الحَكَم إلى أبي شُريح و علّل ذلك بقوله : (إن اللهَ هو الحَكَم، و إليه الحُكم).

ثم استفاض الباحث أكثر في تناقض العالمانية مع بالعقيدة الإسلامية من ناحية مراتب الإيمان إذ الإيمان حقيقة مركّبة و ليس معنًى واحداً فهو :

1/أصل لا يتم بدونه.

2/واجب، ينقص بفواته فواتاً يستوجب العقوبة.

3/مستحب، ينقص بفواته فواتاً لعلوّ الدرجة.

و تنقض العالمانية أصلَ الإيمان لأنها تناقض منبعه و هو اعتقاد القلب (بالتصديق و الإذعان) فهي لا تُذعِن لسلطان الوحي و كذلك ترتكب الأفعال الفكرية المناقضة لأصل الإيمان بتنصيب الآمِرِين و المُشَرِّعِين مع الله.

و تنقض العالمانية معيارَ التفاضل في الإيمان الواجب و المستحب و هو الطاعة و ترك المعصية، فتستحيل بمعيار التفاضل الشرعي للإيمان إلى مدى الالتزام بما تواطأ عليه الناس من تحسين، و تجعل العمل الصالح الشرعي ذوقاً شخصياً فردياً.

و كذلك يعقد الباحث مبحثاً لمناقضة العالمانية لشهادة الإسلام الثانية : ” محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم-” إذ حقيقة هذه الشهادة هي : طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر، و اجتناب ما عنه نهى و زجر، و تصديقه فيما أخبر، و ألا بُعبد الله إلا بما شرع. و إفراغ هذه الشهادة عن هذه المعاني و حصرها في مجرد معرفة أن محمداً رسول من الله هو مستلزم لإسلام المنافقين في عهد النبوة، و هو لازم فاسد يسلتزم فساد الملزوم.

و موقف العالمانية من هذه الحقيقة هو التولي و الصدود { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى – : ” فدلّ على أن مُخالفته في الطريقة كُفرٌ”

ثم بدأ الباحث في رصد مناقضة العالمانية لشروط كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” فالعالمانية جاهلة بحقيقة هذه الكلمة فنقضت شرط العلم، و العالمانية تشك في مسلمات الشريعة السياسية التشريعيّة و تسلبها قيمة الإلزام و لا تقبل بها إلا بعد تمحيص و مساءلة و تشكيك و هذا ينافي شرط اليقين، و العالمانية ترد مقتضيات الوحي و هذا ينافي شرط القبول، و العالمانية تترك أوامر التحاكم الشرعيّة و هذا منافٍ لشرط القبول، و العالمانية تخادع الله و تنافق بسلبها لسيادة الوحي و هذا منافٍ لشرط الصدق، و العالمانية تشرك مع الله في حكمه و شرعه و أمره و هذا ينافي شرط الإخلاص، و العالمانية تبغض الشرع بل و تنصب العداء لحملة الشريعة و علمائها و هذا منافٍ لشرط المحبة. “

انتهى منقولاً من رسالتي: ” المفيد المعتصر من كتاب العالمانية طاعون العصر ” د.سامي عامري

السابق
أين هو الخلاف الجوهري مع الدولة الحديثة؟
التالي
معضلة اللامذهبية وفخ النص!

اترك تعليقاً