أتاحت لي هذه الجائحة : جائحة كورونا وقتاً أطولَ للخلوِّ بالنَّفس، و التأمُّلِ في بعض المواقف التعبديّة المتكررة التي ذهبت ماديّةُ الحياة و روتينيّةُ دورانها بمغازيها الساميّة، و دفنت الإلفةُ حيويتَها تحت أطنانٍ من تراب الغفلة، والله المستعان!
لذلك الهداية القرآنية التي أرسلها القرآن في ثنايا نُصحِه للمكذّبين بالرسل أن قال لهم :﴿ ۞ قُلۡ إِنَّمَاۤ أَعِظُكُم بِوَ ٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُوا۟ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَ ٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا۟ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِیرࣱ لَّكُم بَیۡنَ یَدَیۡ عَذَابࣲ شَدِیدࣲ ﴾ [سبإ : ٤٦]، وقد برع الإمام الزمخشري – رحمه الله – في “الكشّاف ” في بيان إمداد التفرد و الإخلاء بالنفس لنَهر التفكر و التدبر، فقال في تفسير هذه الآية : ” أما الاثنان : فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين متناصفين ، لا يميل بهما اتباع هوى ولا ينبض لهما عرق عصبية ، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر على جادة الحق وسننه ، [وكذلك الفرد : يفكّر في نفسه من عادات العقلاء ومجاري أحوالهم ، والذي أوجب تفرقهم مثنى وفرادى : أن الاجتماع = مما يشوش الخواطر ، ويعمي البصائر ، ويمنع من الروية ، ويخلط القول ; ومع ذلك يقل الإنصاف ، ويكثر الاعتساف ، ويثور عجاج التعصب ، ولا يسمع إلا نصرة المذهب] ” .
وهذا النصُّ الذهبيُّ من الإمام الزمخشريّ يسبقُ الفيلسوفَ ” غوستاف لوبون ” في بعض خلاصات رسالته الشهيرة ” سايكلوجيا الجماهير ” ؛ فكم في القرآن من خبايا علم النفس ! و لكن هل من مُدّكِر؟الحاصل أن القضيّة التي لفتت انتباهي في صلاة فجر الجمعة هي السنّة النبوية الشهيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ﴿ آلم * تَنزِيل ﴾ السجدة، و﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ ﴾ ” متفق عليه” و ” للطبراني ” من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه- : (يُدِيمُ ذلك).
وهذه السنة أعادتها لي هذه الجائحة و الصلاة في البيوت الاضطرارية ؛ فمساجد منطقتنا قلّما يقرأ أئمتُها بهاتين السورتين في فجر الجمعة ؛ بحجة أن الناس يستثقلونها ! ، وإن كنا في مساجد الداخلية أيامَ الجامعة نصلي أئمةً بالطلاب مع بعض الإخوة فكانت سنة شبه دائمة في فجر الجمعة، إلا أنه لم يخطر ببالي هذا السؤال في ذلك الوقت، ألا و هو :
لماذا قراءة سورة السجدة و الإنسان سنة نبوية في فجر الجمعة من كل إسبوع؟ و ما العلاقة المشتركة بين السورتين؟
وفي محاولة استخلاصة الإجابة القرآنية أقول :
الإنسان كائن عاقل ذو أسئلة كثيرة حول طبيعة الحياة و طبيعة النفس و سؤال الهويّة و سؤال الغاية و سؤال المصير و هي الأسئلة التي يسميها الفلاسفة ” بالأسئلة الوجوديّة” ، و قد عاثَ الناسُ في جوابها شرقاً و غرباً زماناً طويلاً و اختلفوا اختلافاً مريجاً.و لكن رأيتُ أن القرآن – في هاتين السورتين – يُعيد ترتيب هذه الأسئلة بأخصر عبارة،و أوضح إشارة ؛ فسورتا السجدة و الإنسان تذكران الإنسان بـ :
– بداية خَلقه و أنه مُحدث لا أزلي : “﴿ ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ كُلَّ شَیۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَـٰنِ مِن طِینࣲ ﴾ [السجدة : ٧]و في الأخرى : ﴿ هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ حِینࣱ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ یَكُن شَیۡـࣰٔا مَّذۡكُورًا ﴾[الانسان : ١].
– تركيبة خلقه من ماء و طين : ﴿ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَـٰنِ مِن طِینࣲ * ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَـٰلَةࣲ مِّن مَّاۤءࣲ مَّهِینࣲ ﴾ [السجدة : ٨]و في الأخرى : ﴿ إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجࣲ نَّبۡتَلِیهِ فَجَعَلۡنَـٰهُ سَمِیعَۢا بَصِیرًا ﴾ [الانسان : ٢].
-الطبيعة الروحية في الإنسان و القابليّة للفهم و التعقل : ﴿ ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِیهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِیلࣰا مَّا تَشۡكُرُونَ ﴾ [السجدة : ٩]و في الأخرى : ﴿ إِنَّا هَدَیۡنَـٰهُ ٱلسَّبِیلَ إِمَّا شَاكِرࣰا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾[الانسان : ٣].
– غائيّة الحياة الدنيا، و مصير الموت لما سألوا : ﴿ وَقَالُوۤا۟ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِی ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدِۭۚ بَلۡ هُم بِلِقَاۤءِ رَبِّهِمۡ كَـٰفِرُونَ ﴾[السجدة : ١٠] ؛ فكان الجواب : ﴿ ۞ قُلۡ یَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِی وُكِّلَ بِكُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ ﴾ [السجدة : ١١]وفي الأخرى : ﴿ إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ یُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ وَیَذَرُونَ وَرَاۤءَهُمۡ یَوۡمࣰا ثَقِیلࣰا ﴾ [الانسان : ٢٧]- حوجة الإنسان للوحي الإلهي قبل كل هذه الحقائق؛ ولذلك قبل هذه الآيات اُفتتحت السورة بـ﴿ تَنزِیلُ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا رَیۡبَ فِیهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ * أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمࣰا مَّاۤ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِیرࣲ مِّن قَبۡلِكَ [لَعَلَّهُمۡ یَهۡتَدُونَ] ﴾[السجدة : ٢و٣]، وفي الأخرى : ﴿ إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ تَنزِیلࣰا ﴾ [الإنسان: ٢٣].
– المُفاضلة الإيمانيّة هي المفاضلة المرضية و الحقيقية المُطلقة ، ومصير كل أحد من طرف : ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنࣰا كَمَن كَانَ فَاسِقࣰاۚ لَّا یَسۡتَوُۥنَ ﴾ [السجدة : ١٨] وفي الأخرى استفاضة في ذكر حالي الكافرين و الأبرار ﴿ إِنَّاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ سَلَـٰسِلَا۟ وَأَغۡلَـٰلࣰا وَسَعِیرًا ﴾ و ﴿ إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ یَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسࣲ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴾[الانسان : ٤و٥] و هذا على عكس المفاضلات القبليّة و العُنصريّة في الجاهليّة الأولى، و على عكس مُفاضلات المواطنة و الإنسانويّة في الجاهليّة الحديثة ” العالمانية “.
-ضرورة الصبرة و المصابرة على أوامر الوحي لتحقيق غاية الإنسان في الحياة عدم الالتفات لطعن الطاعنين في الشريعة : ﴿ وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَىِٕمَّةࣰ یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُوا۟ۖ وَكَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یُوقِنُونَ ﴾ [السجدة : ٢٤] ، و في الأخرى : ﴿ فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعۡ مِنۡهُمۡ ءَاثِمًا أَوۡ كَفُورࣰا ﴾ [الانسان : ٢٤]
فسبحان من هذا كتابه !
هذه المعاني التي كانت سنّة نبويّة في صلاة فجر يوم الجمعة مَنْ تأملها و تدبّرها = أعادت له تشكيل أسئلته الوجوديّة بمنطلق قرآني مطلق الحقيقة، و لعلّ تكرارها كل أسبوع مما يقرّرها في النفوس، و صدق الحَبرُ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – حين قال : ” والكتاب والسُّنَّة يدلُّ بالإخبار تارة، ويدل بالتنبيه تارة، والإرشاد والبيان للأدلة العقلية تارة. وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلَّة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسُّنَّة، مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه، فكان فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلَّة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين ” [ المجموع جـ٢ – صـ١١٠]