من الملاحظات في فكر المحتل الفرنسي (أو من يُقال له المستعمر) أنه كان حريصاً على إعادة تعريف مفهوم الدين في المجتمع المسلم ؛ فهو يعلم أن الدين يعتبر من أكبر الدواعي لمقاومة الاحتلال لطبيعته المهيمنة والضاربة في شتى مجالات الحياة الإنسانية ، فالإسلام ليس مثل الدين الحداثي النصراني المحرف أو الكبالا اليهودية أو اليوغا أو الكونفشيوسية التي تحاول حصر الدين في مجرد طقوس فردية من شأنها إحداث السعادة في القلب والروح ، ولكن لا أثر لها في الشأن العام ، فهي لا ترفض الدين بالكلية كما يقول الفيلسوف برجر ، ولكن تريد ديناً مطاوعاً مفرغاً غير عقدي ولا مقاوم .
من هنا كان الاحتلال الفرنسي حريصاً على اتخاذ المسلمين الدين كشعائر تعبدية محصورة في الرقص والغناء والحفلات ، وبعيدة تماماً عن روح الإسلام التي ينبغي أن تتجه بكلياتها في ذلك الوقت لإخراج المحتل ومقاومة مشروعه الحضاري وغزوه الفكري على عقائد الناس ودينهم !
ذكر المؤرخ المصري الجبرتي أن المستعمرين الفرنسيين عندما احتلوا مصر بقيادة نابليون بونابرت انكمش الصوفية وأصحاب الموالد فقام نابليون وأمرهم بإحيائها ودعمها، فقد ذكر الجبرتي أن نابليون أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمره بتعليق الزينات، بل وحضر الحفل بنفسه من أوله إلى آخره(1).
وما السبب في ذلك ؟
يقول المؤرخ الجبرتي المعاصر لهم: «ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات» (2).
ويعلق عبد الرحمن الرافعي قائلا: «فنابليون قد استعمل سياسة الحفلات ليجذب إليه قلوب المصريين من جهة، وليعلن عن نفسه في العالم الإسلامي بأنه صديق الإسلام والمسلمين» (3). (4)
_____________________________________________________
(1) انظر كتابيه عجائب الآثار (2/ 201، 249) ومظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس (ص47).
(2) تاريخ عجائب الآثار (2/ 306).
(3) تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم لعبد الرحمن الرافعي (ص 258 – 261).
(4) انظر : المولد النبوي … هل نحتفل؟ المؤلف: شحاتة محمد صقر ، (ص 39).