شبهات معاصرة

الموجز المختصر في معضلة الشر

سأحاول تلخيص وتبسيط الجواب والمفاهيم الدينية والفلسفية الوجودية والأخلاقية بقدر المستطاع عن مشكلة الشر:

وعذراً على الإطالة، لكن هذا هو القدر الممكن في نظري ليحل الإشكال بصورة جذرية، ولتكون الإجابة مرجعية مستقبلاً – إن شاء الله-.

1- “شبهة الشر” معضلة فلسفية نشأت كنتيجة للحروب والزلازل والكوارث الطبيعية، ولما كثرت هذه الأمور في القرون المتأخرة مع قوة السلاح ومادية النفس البشرية تسارعت هذه الشبهة إلى قلوب بعض الناس فبدأ يفكر في الإلحاد ونفي الوجود الإلهي تحت سؤال: “أين الله من كل تلك الشرور التي تحصل لنا؟”.

2- المدخل الأولي قبل الجواب عن هذه الشبهة أن نعلم أن السبب فيها غالباً لا يكون علمياً، بل هو سبب نفسي تحت سطوة الحدث. فلو انتهى هذا الحدث أو خرج الإنسان من سطوته وبدأ يفكر بصورة موضوعية لانحلَّ كثير من الإشكال المتوهم في ذهنه في الربط بين الشر والإلحاد، كما أن البعد عن قراءة القرآن وتغذية الروح بالإيمان والتعبد له أثر بالغ في تسلط هذه الشبهة على القلب.

فمثلاً: لماذا لم تفكر السائلة في الإلحاد بسبب شبهة الشر هذه لما قرأت قصة أصحاب الأخدود الواردة في سورة البروج والتي فيها قتلُ المؤمنين بحرقهم في أخدود؟
السبب هو أنها لم تعش تلك اللحظة مع الحدث فلم تقع تحت سطوة الشبهة، فكان التفكير متفهّماً للحدث في سياق البلاء المتكرر في مفهوم القرآن بدون مشكلة، لكن الآن هي جزء من الحدث في هذه الحروب فكانت الشبهة متسلطة عليها، فلذلك التفكير الموضوعي مهم في الشبهة.

3- قبل الجواب عن تفاصيل الشبهة يجب فك الارتباط اللا منطقي بين حدوث الشر ونفي وجود الإله: فالطريق المتسق هو أن تطعن في الحكمة الإلهية بسبب حدوث الشر فتصف الإله بأنه شرير أو ظالم مثلاً، هذا طريق متسق (رغم خطئه كما سنعلم)، ولكن أين هو الرابط الموضوعي بين حدوث الشر وانتفاء وجود الإله؟ سأضرب مثالاً يُقرّب الحجة: لو رأيت مجموعة من الأطفال قد تم ضربهم ضرباً شديداً حتى أُدميت أقدامهم ولما سألت عن الفاعل قالوا لك: هو أبوهم. فقلت: بما أنه قد حصل شر لأطفاله فإذاً هذا الأب غير موجود أصلاً!
هل هذا الكلام متسق مع نفسه؟ لا، المتسق أن تقول هذا الأب شرير أو ظالم أو ما شابه ذلك، لكن لا علاقة بين وجوده وحدوث الشر هنا لا من قريب ولا من بعيد.
تبقى لنا علاقة الحكمة الإلهية بالشر.

4- من الضروري فهم تكامل الصفات الإلهية، والنظر لبعضها وإغفال الأخرى يوقع في خطأ التصور عن الله، فالذي يقع في شبهة الشر له تصور مغلوط عن الله؛ إذ هو يتصور أن الله تتوقف صفاته على الرحمة فقط، وهذا تصور قاصر جدا. بل صفات الله متكاملة: فكما أن من صفاته الرحمة كذلك من صفاته القوة والعظمة والجبروت والقهر والانتقام وهكذا، وهذه الصفات متكاملة مع بعضها لتحقق الكمال الإلهي فلو كان في كل موقف يرحم ولا ينتقم ولا يقهر ولا يتجبر لكان هذا نقصاً يتنزه الله عنه؛ فبعض الناس قد يعفو ويرحم دائماً لضعفه وعجزه وكونه لا يجد خياراً أمامه إلا الرحمة حتى لو كان الموقف يقتضي القوة والقهر.

5- من الضروري أيضاً فهم طبيعة الوجود، فالوجود فيه كثير من الكائنات التي تعيش مع بعضها، ومقتضى ذلك أن يوجد الشر والألم؛ فمثلاً: الغزلان تأكلها الحيوانات المفترسة ولولا ذلك لقضت الغزلان على الغابات والأشجار التي هي ضرورية أيضاً للحياة، والشمس ضرورية للكائنات بضوئها ومع ذلك حرارة ضوئها أحياناً تقتل بعض هذه الكائنات، والأنهار والبحار ضرورية للحياة والشرب والعيش للأسماك ومع ذلك يحصل منها الغرق والفيضانات… إلخ فهذه طبيعة الوجود أن المادة فيه يكون فيها جانب من الألم بطبيعة هذه المادة.
بل حتى الأخلاق الحسنة والقيم العليا لا نستطيع فهمها إلا بوجود نقيضها من الشر: فكيف سنفهم العدل إن يكن هناك ظلم؟ وكيف سنفهم الحلم إن يكن هناك طيش؟ وكيف سنفهم الشجاعة إن لم يكن هناك جبن؟ وكيف سنفهم الأمانة إن يكن هناك خيانة؟
هذه الحقيقة لابد من فهمها حتى لا يكون الإنسان كالأبله الذي يطلب الماء في الكون لكن بدون أن يكون فيه غرق، أو يطلب لحم البقر لكن بدون أن يكون هناك ذبح لها وإزهاق لروحها، أو يطلب فهم صفة العدل بدون وجود الظلم!
تبقى لنا الحكمة من وجود الشر حتى مع المسلمين (وهو أصل سؤال السائلة).

6- من الضروري أيضاً فهم مطلق العلم الإلهي وسعته في حكمة الله، بمعنى أن الحكمة من فعل الله وقدره بالغة جداً، وعقولنا وعلومنا قاصرة جداً عن الإحاطة بكل علم الله “وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً”، وأنا سأضرب هنا مثالاً يقرب لنا هذا المفهوم في حياتنا:
حينما تدخل مستشفى فيه أمهر الأطباء وأحدث الأدوات الطبية وهو مشهور معروف بجودته، ثم فجأة تجد في غرفة العمليات أدوات حادة وكبيرة مع دماء، هل يتسرب لذهنك شيء من أن هذه الأدوات مآلاها هو الشر المحض وغرضها هو إحداث الألم الخالص في المرضى ؟ بل لو جلست أمام الطبيب وأتى بالمشرط أو الحقنة وأدخلها في جسدك وشعرت بالألم الشديد لدرجة الصراخ هل تشك أن الغرض من هذا الألم هو محض الشر؟
الإجابة قطعاً: لا، وإلا لما أتيت للشر بقدميك، ولكن لماذا؟
لأنك تثق تمام الثقة في علم هذا الطبيب وجودة المستشفى. إذا كان هذا في المخلوق فكيف بالخالق؟
وهذا مجرد مثال للتقريب لفهم أفعال الله في الكون، وليس المقصد هو حصر حكمة الله في نوع واحد من الأغراض، بل لله الحكمة البالغة التي لن ندرك كنهها الكامل، وإلا لاستوى في ذلك الخالق والمخلوق! فتقدير الشر قد يكون للابتلاء والتمحيص، وقد يكون عقوبة وعذاباً، وقد يكون تمييزاً للحق من الباطل، وقد يكون فتنةً واختباراً، وقد يكون استدراجاً،… إلخ وكلها حِكم لله في الخلق.

7- من الإشكالات في التفكير حصر مفهوم الشر في الألم الدنيوي، وهذا ما لا يتفق مع نظرة الدين بصورة عامة، فالألم يشمل ألم الدنيا وألم الآخرة، وعليه فالدنيا ليست هي النهاية للآلام، فقد يعجل الله الشر للإنسان في الدنيا لتفادي شر الآخرة، فمثلاً هناك أطفال قد يقتلون الآن لأن في علم الله المسبق أنهم لن يدخلوا الجنة إلا بهذا الألم الدنيوي، ولو قُدّر لأحدهم الحياة لكفر بالله واستحق بذلك شر الآخرة، هذا مجرد مثال واحد لحكمة الله، وإلا فلله حكم كثيرة لا ندركها كلها ، وهي تتغير مع كل واقعة بحسبها، ولكن نوقن أن له حِكَم بالغة لإيماننا بعلمه المطلق كما سبق.

8- ثواب الصبر عظيم جداً ولا حساب له عند الله “إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”، وهو يكفر الخطايا والذنوب ويرفع الدرجات، فلعل الله يريد لعبده المنزلة العالية هذه وأعماله لا تبلغها وذنوبه كثيرة، ولكن الله يريد له هذه المنزلة، فلا يبلغها إلا بهذا الشر النسبي الدنيوي كجرح أو مرض أو تهجير أو شهادة في سبيله لينال ذلك الخير المطلق.

9- مفهوم الظلم في حد ذاته يحتاج لإعادة تعريف عند من تلبّس بشبهة الشر والطعن في الحكمة الإلهية، فالظلم يكون أخذاً لشيء تستحقه لا لشيء تَفضّل به غيرك عليك، بمعنى:
لديك هاتف جوال تملكه بحرّ مالك وجاء شخص آخر وأخذه منك وحطّمه = هذا ظلم.
ولكن لو جاء شخص ما وأعطاك هاتفاً إعارة تكرماً منه عليك، ثم رجع مرة أخرى وأخذ منك هذا الهاتف وحطّمه = هذا لا يعتبر ظلماً، هو أخذ شيئاً لا تستحقه أنت وليس ملكاً لك.
إذا فهمنا هذا استطعنا فهم أن الله منزّه عن الظلم في كل الأحوال “ولا يظلم ربك أحداً”؛ فالله هو الذي أوجد الإنسان من العدم وخلق له السمع والبصر والأيدي والأرجل والحياة وكل شيء، أرأيت لو أخذ الله ما أعطاه للإنسان يكون ظالماً؟ فكيف وأن الله أمرنا بالعبادة ولا أحد يستطيع أن يوافي نعم الله ولو بلغ ما بلغ من العبادة، لذلك في الحديث النبوي: (لو أنَّ اللهَ سبحانه عذَّب أهل سماواته وأهل أرضِه لعذَّبهم غير ظالمٍ لهم، ولو رحِمَهم كانت رحمتُه لهم خيرًا من أعمالهم) “رواه أبوداود”، فأفعال الله دائرة بين العدل والفضل، فلو عذب أقواماً فبعدله، ولو رحمهم فبفضله وتكرُّمه عليهم لا لاستحقاقهم.

10- هل يمكن لله أن ينصر المسلمين على غيرهم من غير حروب ولا شدة ولا كرب، فيعجل لهم الفرج ؟
نعم. يمكن “ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم”، لكنه يريد الابتلاء والتمحيص واستخراج عبوديات من الناس ما كان لها أن تخرج بدون هذا الألم والشدة فمن ذلك: الصبر، وانتظار الفرج، والثقة في وعد الله، والجهــاد بكل أنواعه، والرضى بالقدر، وكشف حقائق النفوس، وانكشاف المنافقين، ومد الظالم في ظلمه وغيه ليزداد عذابه… إلخ، هذه كلها عبوديات لا تحصل إلا بنوع ألم وشدة.
ولهذا قال من قال من علماء العقيدة: لا وجود للشر المحض في الكون، فكل شر لو نُظر له من جوانب أخرى لرأينا فيه كثيراً من الخير.

والحمدلله.

كتبه محمد خلف الله
في 15 ربيع الثاني 1445هـ الموافق 30 أكتوبر 2023م

السابق
طوفان الأقصى وأثره على فكر وتصورات المسلم
التالي
غباء أم توظيف؟ التيار المدخلي والموقف من قضايا الأمة

اترك تعليقاً