الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
أريد التعليق على مقتل واستشهاد البطل أبي إبراهيم يحيى سنوار، العسقلاني الغزاوي الفلسطيني قائد حركة حماس.
أريد أن نتأمل في هذا المشهد البطولي الفريد الأسطوري الذي لا يتحقق كثيرًا في واقع التاريخ، خصوصًا في عصرنا هذا الذي كثر فيه الخنوع والذل والخضوع والبعد عن الدين والتمسك بالدنيا والتعلق بها.
هذا الرجل، أيها الأحبة الأفاضل، رجل مسلم تجاوز الستين من عمره، عمره اثنان وستون عامًا، أي أن الجسم قد نحل وضعف، واشتعل الرأس شيباً، وبلغ من الكبر عتياً، لا يقوى على الحركة، ولا يقوى على الجهاد – فيما نظن وفيما يُفترض في جسم الإنسان العادي – ومع ذلك هذا الرجل يجاهد ويقاتل ولم يعتذر بهذا العذر الذي إذا اعتذر به لكان عذرًا وجيهًا، لكنه لم يعتذر به، أكثر من ستين وهو يفعل ما يفعله الشباب، بل بالأصح، يفعل ما يجبن ويعجز عنه الشباب من أمثالنا.
هذا الرجل رجل محاصر منذ أربعة عشر عاماً، وقبلها معتقل في سجون الصهاينة أكثر من عشرين سنة، يعني عمره ثلثه في السجون، وثلثه في الحصار، وثلثه في الجهاد والسياسة.
هذا الرجل فقد كل معين من حيث العدة، ومن حيث العتاد، ومن حيث الرجال، فهي حركة ضعيفة، قليلة اليد، ومحاصرة منذ عشرين عامًا، يقطع عنها الكهرباء والهواء والماء في أي لحظة، لأن كل هذه الأمور بيد عدوها. وتتواطؤ الدول المسلمة التي يفترض أن تناصرها وأن تقف معها، تتآمر ضدها وتساعد في حصارها وقفل المعابر عليها، وقطع إمداد السلاح والمال عنها.
هذا الرجل استطاع بهذه الإمكانيات القليلة أن يواجه أكبر جيش معاصر؛ لأن المعركة الحقيقية ليست مع إسرائيل، وإنما مع الجيش الأمريكي، الذي يرى في إسرائيل وجودًا حقيقيًا له ووجودًا استراتيجيًا له، ونقطة قتال ودفاع متقدم له في الشرق الأوسط، فهو حقيقة يقاتل الجيش الإسرائيلي ويقاتل الجيش الأمريكي، ويقاتل الدعم الغربي، ويقاتل المال الرأسمالي العالمي، ويقاتل الإمبريالية العالمية التي تواطأت حتى مع الدول العربية المسلمة ضد هذه البقعة، هذا القطاع الصغير من العالم الذي ما زال يحمل جذوةً ونخوةً وحرية، وما زال ينبض إسلامًا وعزةً.
هذا الرجل بهذه الإمكانيات القليلة مع أقوى وأعتى الدول، استطاع أن يُحدِثَ أقوى هجمة وأفظع قتال وقع على إسرائيل منذ نشأتها منذ العام 48م إلى يوم الناس هذا. وهو طوفان يوم السابع من أكتوبر.
هذا الرجل هدم كل السرديات التي ينسجها الجيش الإسرائيلي عن بطولاته والدعاية الإعلامية التي يجعلها الجيش الإسرائيلي شاهدةً على قوته، وأنه الجيش الذي لا يُقهَر، وأنه الجيش الذي لا يُهزَم، وأنه الجيش الذي استخباراته وتقنياته وأسلحته بلغت ما بلغت من المدى العظيم.
مع كل هذا، كسر هذا الرجل كل هذه السرديات. بماذا؟
حقيقةً، ماديًا لا توجد إجابة على ما فعله يحيى السنوار يوم السابع من أكتوبر.
هذا الرجل أوقفَ العالم كلَّه على رجل واحدة في ذلك اليوم، مندهشًا أمام هذه العظمة برجال لا يتجاوزون ثلاثة آلاف شاب يفعلون هذه المقتلة العظيمة في هذا العدو الصهيوني المحتل الغاصب الكافر.
هذا الرجل مشهده مشهد عظيم، لو أنه استتر عن القتال ولم ينزل في ساحات الوغى لكان له عذر، بل لكان هذا هو الأنسب سياسيًا. فالقادة، أيها الأحبة الكرام، الأصلُ أنهم ينبغي أن يتحصَّنوا وأن يَحتَمُوا، وأن يكون الجند هم الذين يخوضون غمار المعركة، وهذا لا يعني أن القائد لا يقاتل مطلقًا ولا يتقدَّمُ الناس، لا، لكن الأصل فيه أن يكون بعيدًا من الخطوط المشتعلة، لماذا؟ لأنه الرأس المدبر، لأنه الذي إذا قُطِع انقطع كلّ الجيش! فهذا الرجل كان يمكن أن يعتذر بذلك، ويكون كما قال عنه الصهاينة العرب المنافقون الذين يمثلون ما قاله الله تبارك وتعالى: “لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خَلَـٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ” (التوبة: 47)، الذين قالوا عن هذا الرجل أنّه يقاتل في الأنفاق، وأنّه كالفأر، وأنه كالجرذ، وأنه يحتمي بالأطفال، وأنه يحتمي بالأسرى، حتى إذا أرادت إسرائيل أن تقتله، رأت الأسرى معه، فمنعت سلاحها من ضربه.
فأين وجدوه؟
وجدوه يقاتل على مسافة كيلو مترات فقط من الأراضي والمناطق المشتعلة في الخطوط الأمامية، حاملًا سلاحه يقاتل ويدافع ويذود مع رجاله في الأرض، متوشحًا غطاءً حتى إذا اكتشفته الطائرات المسيرة لم يعرفه الصهاينة ليعتقلوه. فهو يريد أن يموت رجلًا لرجل، يريد أن يموت سلاحًا بسلاح، يريد أن يموت مقبلاً غير مدبر، لا يريد مشهد الذل الذي كان يمكن أن ينتصر به الصهاينة إذا ما اعتقلوه وجرّدوه من ملابسه وحملوه وصوَّروه وأذلّوه وأهانوه.
لا، هو يريد أن يموت موتة الشرفاء.
هذا الرجل كان ينعى نفسه،
يا إخوة، تاريخيًا قرأنا عن شهداء وأبطال في الإسلام منذ عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم، قرأنا من ينعي نفسه، وإن كانت هذه الأمور تعد على الأصابع، شخص يمتلك من الشجاعة فينعي نفسه،ويعلم أنه يخطط لهذا الأمر، يعلم أنه مقدِمٌ على خطوةٍ تكون هذه الخطوةُ هي حتفَه. مثل هذا موجود في التاريخ.
لكن ما المميز في السنوار؟
رجلٌ معاصر…
رجلٌ معنا…
رجلٌ في زماننا…
رجلٌ يحمل نفس أوصافنا، يتكلم بلساننا، يشهد ما نشهده، يأكل ما نأكله، يشرب ما نشربه…
رجلٌ معنا بيننا حتى لا نتعذر بأن هذا صحابي أو ما شبه.
حينما نقرأ في قصة جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وزيد بن ثابت، وخالد بن الوليد، وأنس بن النضر، وعمر بن الخطاب، هؤلاء الأبطال -رضي الله عنهم – يُمكن أن نتعذّر أن هناك بُعدًا تاريخيًا يمنعنا أن نكون مثلهم، حتى وإن لم نقل ذلك بلسان المقال، لكن لسان حالنا يقول: إن هناك فارقًا موضوعيًا بيننا وبين هؤلاء.
ولكن هذا رجلٌ كسرَ هذه السرديةَ الكاذبةَ التي نُمنِّي بها أنفسَنا.
هذا رجل منّا وفينا وبيننا.
رجلٌ معاصر يعزّي نفسه ويرسم مشهد استشهاده – قبل عشرين سنة – في روايته “الشوك والقرنفل”، بأنه سيكثر الإثخان والقتل في علوج الأعداء، ثم بعد ذلك يقتلونه فيزُفُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول له: مرحى بك .. مرحى بك!
أنا لا أدري هل الناس يتصورون معي عظمة المشهد؟!
هذا الرجل تحدى الكيان الصهيوني بأنه سينزل في الميدان لمدة خمسين دقيقة، بعد أن وعده الكيان الصهيوني وتوعده بأنه سيقتله ويغتاله، نزل لمدة خمسين دقيقة في طرقات غزة في بث مباشر، ويقول لهم:
“هذه فرصتكم، اقتلوني، هذه أكبر هدية تقدمونها لي! إنني لا أخشى أن أموت، لكنني أخشى أن أموت على فراشي كما يموت البعير، أو أموت بجلطة، أو أموت بحادث مروري أو ما شابه ذلك. أما الموت على يد أعدائي، وهم يهود، مدافعًا عن أرضي وعن نفسي وعن ديني، فهو أشرف ما أتمناه، اقتلوني“.
أنا لا أستطيع أن أصف لكم كيف كان شعوري؟!
يا جماعة، الآن لو هددك شرطي في الشارع يحمل سلاحًا بأنه سيقتلك بعد ساعة أو ساعتين، كيف سيكون يومك؟
ستكون في حالة الذعر، صحيح؟!
هذا طبيعي. ستكون في حالة ذعر، حالة خوف، حالة هلع، وهذا حق. هذا طبعك كبشر، أننا نحب الحياة ونكره الموت.
هذا الرجل هددته أقوى الاستخبارات العالمية بأحدث الأسلحة، يستطيعون أن يتصيدوه بأسهل ما يمكن، ويقول: اقتلوني ولا يعطيهم المدة. هذا الرجل لا يخاف.
هذا رجلٌ لا يهاب الموت…
هذا الرجل يحبُّ الموت كما نحب نحن الحياة…
عياذًا بالله من نفوسنا وشرورها…
هذا الرجل قاتل إلى آخر رمق، يعني لم يكتفِ بأنه قاتل وأنه نزل في الميدان، لا، هذا الرجل قاتل حتى آخر رمق. صوَّرته الطائرات الإسرائيلية في مشهد رآه العالم كله، وهم كانوا يريدون من ذلك إذلالَه، وهو قد ضُرب في يده اليمنى وهو جالسٌ على أريكته وهو مستعد للموت. أتته المسيّرة في هذه اللحظة..
ما الذي يمكن أن تفعله إن كنتَ مكانَه؟
هل تتوسلُ لهم بألا يقتلوك؟
هل تنام على الأرض وتصرخ من ألم اليد؟
ومن إرهاق الجهاد؟
لا، هذا الرجل معه في يده اليسرى عصا خشبية. هذه العصا الخشبية لا تفعل شيئًا، ولا تنكأ عدواً، هذا هو الأصل فيها، لكن رغمًا عن ذلك، رمى بها في المسيرة كنايةً عن أنه سيقاتل ولو بالعصا، سيقاتل حتى آخر رمق في حياته، سيقاتل حتى آخر سلاح موجود متاح في يده، هذه العصا لم تضرب المسيّرة، ولكن ضربت في أعناقنا، وضربت على قفا كل مخذلٍ وكل مطبعٍ وكل خوارٍ ضعيفٍ يقول للأمّة: إنكِ لا تستطيعين، وإن العدو أقوى، ” ٱلَّذِینَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُوا۟ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِیمَـٰنࣰا وَقَالُوا۟ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِیلُ ١٧٣ فَٱنقَلَبُوا۟ بِنِعۡمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلࣲ لَّمۡ یَمۡسَسۡهُمۡ سُوۤءࣱ وَٱتَّبَعُوا۟ رِضۡوَ ٰنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَظِیمٍ ١٧٤ إِنَّمَا ذَ ٰلِكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ یُخَوِّفُ أَوۡلِیَاۤءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ ١٧٥” (آل عمران ١٧3-١٧٥) .
هذا الرجل قطع الحجة تمامًا منا … هذا المشهد، لو قُدّر له أن يرسم رسماً، وأن يُكتب ويُحبك بسيناريو مصنوع في هوليوود = لما كان بهذه الدقة. ومع ذلك تجد شباب المسلمين مغيَّبين في بطولات وهمية:
ميسي حصل على جائزة كذا،
وكريستيانو سجل الهدف رقم كذا،
والبطل في فيلم هوليوود فعل كذا ..
بطولات وهمية .. بينما نحن عندنا الأبطال يضربون أروع الأمثلة.
هذا العالم يجمع المتناقضات بصور عجيبة جدًا، هذا العالم يجمع بين أقصى اليمين وأقصى اليسار بصورة مذهلة جدًا. هذا الرجل إعجوبة.
وقد استمعتُ لمقطعٍ لجندي أمريكي سابق يتحدث فيه عن يحيى السنوار، ويقول له بعد أن ضرب له التحية العسكرية: “أنت بطل، ارقد بسلام”.
“أنت بطل رغم خلافي معك، لكن أنت بطل. أنت رجل لستَ قائدًا سياسيًا فحسب، لستَ رجلًا يتكلم ولا يفعل، أنت رجل تقاتل رأسًا برأس، أنت رجل تقاتل حتى الرمق الأخير”.
عدوه يحترمه!
وأذكرني هذا بما ذكره فايز الكندري في روايته “البلاء الشديد والميلاد الجديد” حينما ذكر سجنه في سجن غوانتانامو الرهيب في الولايات المتحدة الأمريكية. قال: إنهم رغم أصناف العذاب وألوانه التي كان يمارسها الشرطي في ذلك السجن سجانون على الشباب المسلمين هناك، ورغم ذلك كان هنالك ثبات أسطوري؛ حتى إن الجندي الأمريكي الذي كان مسؤولًا عن السجن في يوم من الأيام، هكذا يذكر فايز كندري الذي كان معتقلًا في غوانتانامو، هذا الجندي نظرَ في طرقاتُ السجن فوجد الطريق خاليًا ليس فيه أي جندي، فقال: “فأتى إلينا في السجن – نحن الشباب، مجموعة من الشباب المسلمين – فضرب لنا التحية العسكرية، وقال: أنا أكرهكم لكن احترمكم”
والله ميتة رجال، والله ميتة رجال!
والعجيب والذي أختم به، هو أن هذا الرجل، أيها الأحبة الأكارم، حينما مات ماذا وجدوا في جُعبته؟ لابسًا بزّته العسكرية، ومعه سلاحه، ومعه قنابل يدوية، ومعه بعض الأموال، ومعه بعض الأوراق الثبوتية، ومعه ماذا؟ ومعه منظف للأسنان، ومعه مقص للأظافر، ومعه ورقة فيها أذكار نبوية، مشهد ومسبحة يسبّح بها.
عمر المختار يُبعث من جديد يا إخوة!
هذا الرجل، يعني مات على خلاصة الإسلام، وهي أن يكون الشخص ليس غافلاً عن سلاحه: “ وَدَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَیَمِیلُونَ عَلَیۡكُم مَّیۡلَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۚ “ (النساء: 102).
لا يغفل عن سلاحه ولا عن متاعه متيقظٌ حذرٌ، ومعه ما ينظّفُ به نفسه؛ لأن المسلم يحبُّ أن يلاقي ربه وهو طاهر، ومطهَّر، وهو مطبِّقٌ لخِلال وسننِ الفطرة، من تقليم الأظافر، وطيبِ رائحةِ الفم، الذي هو مرضاةٌ للرب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن السواك مرضاة للرب، ومطهرة للفم”.
ومعه المسبحة التي يذكر الله تبارك وتعالى بها، كما قال الله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (الأنفال: 45).
لولا الذِّكرُ لما ثبت هذا الرجل في هذا المكان…
لولا القُرآنُ لما ثبت هذا الرجل في هذا المكان…
وبالمناسبة هؤلاء الرجال هم من أبناء الحركة الإسلامية الذين تربوا تربية شرعية، وهم أغلبهم من خريجي الكليات الشرعية واللغة العربية في غزة، هذا خريج كلية اللغة العربية، و هذا خريج كلية الشريعة.
هؤلاء الرجال لهم تربية إيمانية قرآنية عميقة، يعني لا تظن أنهم مجرد ساسة أو مجرد عسكريين وما شابه ذلك.
لا. هذه خلاصة الإسلام:
ذكر وسلاح ودراية وحذر ونظافة وطهارة.
والله مشهد كما قلت لو رُسم رسماً وطُلب من أحد أن يكتب السيناريو = لما استطاع أن يرسمه بهذه الدقة والتفاصيل.
حتى إن كثيرًا من أدوات الإعلام الإسرائيلي تقول: ” لقد أخطأنا خطأ فادحًا في تصوير مقتل هذا الرجل، لقد كان مشهدًا أسطوريًا، وسيظل الرجل أكبر مما هو عليه بعد وفاته… لقد انتصر علينا حتى في وفاته! “..
رحمة الله عليك يا أبا إبراهيم…
ونسأل الله عز وجل أن يعالج نفوسنا الضعيفة…
وأختم بأبيات البرغوثي يرسم فيها هذا المشهد البطولي قائلاً:
ألا كم كريمٍ عدَّه الدهرُ مُجرِما
فلمَّا قضَى صلَّى عليه وسلَّمَا
أبو القاسمِ المنفِيُّ عن دارِ أهلِه
وموسَى بنُ عمرانٍ وعيسَى بن مَريمَا
أتعرفُ دينًا لم يُسَمَّ جريمةً
إذا ضبطَ القاضي بها المرءَ أُعدِمَا
صَليبٌ وقتلٌ في الفِراش وعسكرٌ
بمصرَ وأُخدودٌ بنجرانَ أُضرِمَا
وطفلٌ وديعٌ بين أحضانِ أُمِّه
يراوغُ جَيشًا في البلادِ عَرمرَمَا
وقلَّ نبيٌّ لم تلاحِقْه شُرطةٌ
وأشباهُها في كلِّ دهرٍ تصرَّمَا
فمِن جوهرِ التوحيدِ نفيُ ألوهةِ ال
مُلوكِ؛ لذا ما زالَ دينًا مُحرَّمَا
ولم يُؤمنِ الأملاكُ إلا تَقيةً
وفي المُلك شِركٌ يُتعبُ المُتكتِّمَا
وفرعونُ والنُّمرودُ لم يَتغيَّرَا
بقَرنينِ أو رَبْطاتٍ عُنْقٍ تهنْدَمَا
ونحنُ لعَمري نحنُ منذُ بدايةِ ال
خَليقةِ يا أحبابَنا وهُما هُمَا
نعظِّمُ تاجَ الشَّوكِ في كلِّ مرةٍ
ولسنا نرَى تاجًا سواهُ مُعظَّمَا
ونرضَى مِرارًا أن تُرضَّ عِظامُنا
عَطاشَى ولا نرضَى دَعِيًّا مُحكَّمَا
مُسيَّرةٌ في شُرْفة البيتِ صادفَتْ
جريحًا وحيدًا يَكتسِي شطرُه دَمَا
قد انقطعتْ يُمناهُ وارتُضَّ رأسُه
فشدَّ ضِمادًا دونَه وتعمَّمَا
وأمسكَ باليُسرَى عصًا كي يرُدَّها
فكانتْ ذُبابًا كُلما ذُبَّ حوَّما
وما أُرسلَتْ إلا لأنَّ كتيبةً
من الجُندِ خافتْ نِصفَ بيتٍ مُهدَّمَا
وقد وجَدُوه جالسًا في انتظارِهم –
أظنُّ – ومِن تأخيرِهم مُتبرِّمَا
ولو صوَّرتْ تحتَ اللِّثامِ لصَوَّرتْ
فتًى ساخرًا ردَّ العُبوسَ تبسُّمَا
تلثَّمَ كي لا يَعرفُوه لأنَّهم
إذا عرَفوه فضَّلوا الأَسْرَ رُبَّمَا
ولو أسَرُوه قايَضُوه بعُمرِه
لِذاكَ رأى خَوضَ المنيَّةِ أحزَمَا
فلم يتلثَّم كَي يَصُونَ حياتَه
ولكنْ لزُهدٍ في الحَياة تلثَّمَا
فقُل في قِناعٍ لم يُلَثْ لسَلامةٍ
ولكنْ شِعارًا في الحُروب ومَعلمَا
وقُل في جُموع أحجَمتْ خوفَ واحدٍ
وفي جالسٍ نحوَ المُشاةِ تقدَّمَا
أتى كُلَّ شيءٍ كي يَسُوء عدُوَّه
ولم يأتِ شيئًا في الحَياة ليسلَمَا
رمى بالعَصا جيشَ العَدُو وصيةً
لمَن عِنده غَيرُ العِصيِّ وما رمَى
رمَى بالعَصا لم يَبقَ في اليدِ غيرُها
ومَن في يديهِ العَسكرُ المَجْر أحجَمَا
غدا مَضرِبَ الأمثالِ منذُ رمَى بها
لكلِّ فتًى يحمِي سِواهُ وما احتمَى
جُلوسًا على الكُرسيِّ مثلَ خليفةٍ
يُبايعُه أهلُوه في الأرضِ والسَّمَا
فذلكَ عرشٌ يَرتضِيه ذَوو النُّهَى
وذاكَ إمامٌ قِبلةَ السَّعدِ يمَّمَا
هُنا يُصبحُ الإنسانُ دينًا مُجرَّدًا
ويُصبحُ دينُ الناسِ شَخصًا مُجسَّمَا
أتعرفُ؟ إنَّ الموتَ راويةُ الفتَى
يقولُ لحقٍّ أمْ لباطلٍ انتمَى
يعيشُ الفتَى مَهما تكلَّم ساكتًا
فإن ماتَ أفضَى موتُه فتكلَّما
وصلى الله وسلم على نبينا محمد…