فقه الدعوة

شذرات من فقه الإعذار التيميّ | متجدد

فقه الإعذار التيمي

فقه الإعذار التيمي (٠)

كل من تجد فيه نبرة غلو في الحكم على المخالفين تبديعا وتجريحا أو تكفيرا وإغفالا لباب الإعذار = فهي أمارة على بعده التام أو شبه التام عن تراث ابن تيمية – رحمه الله – ، وإن ادعى الانتساب له.
لا يجتمع غلو ونَفَس تيميٌّ في إناء واحد قط؛ ففقه الإعذار التيمي واسع جداً مع بيانه الشديد للحق في المسائل. وكثيراً ما يتم تناول شيخ الإسلام من منظور الردود المحكمة على المخالفين تارةً على أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وتارة على الفلاسفة وتارة على النصارى وتارة على أهل المنطق اليوناني وتارة على الرافضة وتارة على القدرية وتارة على الجهمية، ولكن لا يتم تناول هذا الرجل من جهة عظيم إعذاره للمخالفين؛ فكانت هذه السلسلة المتفرقة حول فقه الإعذار التيمي، وهي متجددة كلما وجدتَ نقلاً أضفته لها.

فقه الإعذار التيمي (١)

كنت ذكرت في منشور سابق كيف أن تراث شيخ الإسلام ابن تيمية من أبعد ما يكون عن الغلو في التكفير والتبديع والتجريح مما اُبتلي به كثير ممن ينتسب له من المعاصرين اليوم، وقد رأيت أن أجمع ما وجدت من هذا الفقه الإعذاري عند ابن تيمية في منشورات مختصرة جداً.

وابن تيمية من المعروف عنه كثرة رده على الأشاعرة في كثير من أبواب الاعتقاد، بل ردوده هي العمدة في هذا الباب.
ولكن رغماً عن ذلك لم يمنعه ذلك من إثبات إصلاحهم وفضلهم وذبهم عن كثير من أصول الدين والسنة فيما وافقوا فيه الحق، بل يجعل هذا منهجاً عاماً في كثير ممن له جهود في خدمة الدين فقال – رحمه الله – والكلام عن الأشاعرة :

” ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذاك:

  • منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل.
  • ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل.
  • وخير الأمور أوسطها، وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين. والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات. {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالأيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر:10) ” ا.هـ [انظر: درء التعارض (2/102-103)]

رحم الله ابن تيمية وطيب ثراه، وانظر هذه القسمة الثلاثية في التعامل مع الفرق المخالفة فدائما يكون هناك طرف غالٍ في المدح المطلق ، وطرف غالٍ في الذم المطلق، والحق هو مدح المستحق للمدح بما فيه وذمه فيما يستحقه من ذم مع إثبات صلاح من كان له جهود لخدمة الدين وهذا ليس خاصا بالأشاعرة بل عام في غيرهم بنص قوله : “وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين”، فما أبعد أهل الغلو عن فقه الرجل!

فقه الإعذار التيمي (٢)

نواصل في هذه السلسلة التي تنفي منهج الغلو والشطط عن تراث ابن تيمية خصوصاً عند بعض منتسبيه المعاصرين المخالفين له في هذا الباب.

ماذا لو ظهر اليومَ من يخالف بعض المعاصرين – ممن يحتكرون “منهج أهل السنة في جيوبهم!” – في بعضِ كتبه أو رسائله أو محاضراته الموسومة ” بالمنهجيّة!” ؟
تبديع، تضليل، طحن، عجن، … إلخ
جميل، دعك من هؤلاء و لنوسّع دائرة المخالفة قليلاً ؛ ماذا لو خالف أحدٌ ما ” العقـيــدة الواســـطيّة “؟
مثل هذا يتمّ غسله سبع مرات أولاهنّ بالتراب…

جميل، ماذا يقول صاحب الواسطية نفسه جواباً عن هذا السؤال؟

قال الإمام الفقيه شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله تعالى و قدّس سرّه و نوّر ضريحه – حاكياً مناظرته الشهيرة حول العقيدة الواسطيّة :

” ثُمَّ قُلْت لَهُمْ: وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَالِكًا فَإِنَّ الْمُنَازِعَ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا يَغْفِرُ اللَّهُ خَطَأَهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ، وَإِذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوَلَةُ لَهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُ وَالْقَانِتُ وَذُو الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَغْفُورُ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ: فَهَذَا أَوْلَى، بَلْ مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ نَجَا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَنْ اعْتَقَدَ ضِدَّهُ فَقَدْ يَكُونُ نَاجِيًا وَقَدْ لَا يَكُونُ نَاجِيًا كَمَا يُقَالُ مَنْ صَمَتَ نَجَا. “

[ص١٧٩ ج٣ – كتاب مجموع الفتاوى ]

و استحضر مع هذا مدى الموثوقية التي كانت عند الشيخ بهذه الرسالة!

فقد قال عنها : ” فَقُلْت: لَا وَاَللَّهِ؛ لَيْسَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي هَذَا اخْتِصَاصٌ وَإِنَّمَا هَذَا اعْتِقَادُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ وَقُلْت أَيْضًا هَذَا اعْتِقَادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ لَفْظٍ ذَكَرْته فَأَنَا أَذْكُرُ بِهِ آيَةً أَوْ حَدِيثًا أَوْ إجْمَاعًا سَلَفِيًّا وَأَذْكُرُ مَنْ يَنْقُلُ الْإِجْمَاعَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ. “

[ص١٨٩ج٣ – كتاب مجموع الفتاوى]

إذا كان هذا في الواسطية فكيف يمن يجعل بعض التصورات الذهنية المغلوطة عنده هي المنهج والدين التي من خالفها صار ضالاً مفتوناً؟
فمنِ الأصيلُ و منِ الدخيلُ في هذه الدعوة؟
و أين الإشكال؟
و مَنِ الذي غيّر و بدّل؟
و هل هم مَلَكيُّون أكثر من المَلِك؟

رحم الله الفقيه ابن تيمية رحمةً واسعة..

فقه الإعذار التيمي (٣)

بالمناسبة من عقيدة أهل السنة والجماعة الدعوة لمكارم الأخلاق، وترك الاستطالة على الخلق حتى لو كان بالحق!

شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – ختم متنه العقدي العقيدة الواسطية الذي ذكر فيه مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة بقوله واصفاً أهل السنة :

“ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، (والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق) “.

ومعلوم أن الاستطالة على الخلق بغير حق منهي عنها، ولكن كيف يُنهى عن الاستطالة بحق؟

يقول شيخنا د. يوسف الغفيص في شرحه على الواسطية :

” هذه الجملة الأخيرة من كلامه رحمه الله هي من جمل الفقه الشريفة: أنهم ينهون عن الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق.
والاستطالة بغير حق بينة الفساد؛ ولكن الاستطالة بحق قد تعرض لبعض أهل العلم، ولا سيما ممن لم يكن محققا لمقام العلم، أو بعض العامة القاصدين للخير أو ما إلى ذلك، فيكون عندهم موجب للحق، كإنكار لمنكر قولي أو عملي أو ما إلى ذلك، فيزيدون في هذا الإنكار إلى قدر أن يستطيل أحدهم -أي: يحصل منه زيادة واعتداء- على غيره من المسلمين، بغض النظر عن كون هذا الغير سنيا أو غير سني، ولكنه يكون أشد إذا كان هذا الغير الذي قصد الرد عليه من أقرانه من أهل السنة، وربما يكون أفضل منه علما وعملا، فهذه حال موجودة “.

تأمل هذا جيدا تجده في كثير من هؤلاء الذين ينتسبون للسنة وديدنهم الاستطالة على الخلق بحق وغير حق مخالفين بذاك صميم عقيدة أهل السنة ثم يتبجحون باحتكار هذا الوصف، يا لله العجب!

فقه الإعذار التيمي (٤)

من عظيم فقه ابن تيمية – رحمه الله – أنه يقرر أن لقب ” أهل السنة والجماعة” يتغير بحسب طبيعة الطوائف الموجودة في بيئة ما توسعاً وضيقاً.

فابن تيمية رغم بيانه لباطل الأشاعرة بالتفصيل في كتبه إلا أنه يعدهم من أقرب الطوائف لأهل السنة والجماعة.

ثم يسترسل ويقرر أنهم يمثلون أهل السنة في البلاد التي يوجد فيها أمثال المعتزلة والرافضة وهم أشد منهم بدعةً..

يقول ابن تيمية في معرض حديثه عن الأشاعرة :

“وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة، وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة، والحديث، وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة، والرافضة وغيرهم، بل هم (أهل السنة والجماعة) في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة، والرافضة و(نحوهم) “.

[ نقض التأسيس لابن تيمية (2/87) ]

ومثل هذا الكلام يتناقض تماما مع أهل الغلو، خصوصا أننا في عصور كثرت فيها العلمانية والليبرالية والأفكار الغربية المارقة التي هي أشد من الأشعرية بكثير جدا ؛ فرحمه الله من إمام واسع النظر!

فقه الإعذار التيمي (٥)

من المعروف عن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أنه كان يوصي ويمدح كتب المخالفين له من الأشاعرة فيما وافقوا فيه الحق، بل يعتبر هذه الكتب من الجهاد باللسان

يقول في رده على طائفة الإسماعيلية الباطنية التي منها ابن سينا موصياً ببعض كتب الأشاعرة والمعتزلة في الرد عليها:

” وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم كتبا كبارا وصغارا، وجاهدوهم باللسان واليد، إذ كانوا أحق بذلك من اليهود والنصارى، ولو لم يكن إلا كتاب ” كشف الأسرار وهتك الأستار” للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب، وكتاب عبد الجبار بن أحمد، وكتاب أبي حامد الغزالي، وكلام أبي إسحاق، وكلام ابن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، والشهرستاني، وغير هؤلاء مما يطول وصفه “.

الرد على المنطقيين لابن تيمية (ص: 142-143)، ومثل هذا كبير في كتب ابن تيمية مثل التسعينية ودرء التعارض.

وهذا أيضاً مما لا يتماشى مع مذهب أهل الغلو الذين لا يتسع نظرهم ولا فقههم للاستفادة من المخالف لهم في أمر له فيه نفع وصلاح ويستحق عليه المدح.

فقه الإعذار التيمي (٦)

آذى البكريُّ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية بالقول والعمل، أما القول فقد رماه بالزندقة،واستعدى السلطان في عصره عليه وشايةً.

وأما العمل فقد كان البكري من أشد الصوفية على شيخ الإسلام ابن تيمية، ففي محنته معهم عام 707 هـ عندما ادعوا عليه أنه يمنع الاستغاثة بالنبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض الحاضرين: يعزر، قال البكري: “لا معنى لهذا القول، فإنه إن كان تنقيصا يقتل، وإن لم يكن تنقيصا لا يعزر “.

وفي رجب، وقيل شعبان سنة 711 هـ تعصب على شيخ الإسلام ابن تيمية جماعة من الغوغاء معهم البكري نور الدين وتفردوا به وضربوه، وقد استفرد البكري بالشيخ ووثب عليه، ونتش أطواقه – أي ملابسه -. فلما تكاثر الناس انملص، فطلب -أي البكري- من جهة الدولة فهرب واختفى، وثار بسبب ذلك فتنة، وحضر جماعة كثيرة من الجند وغيرهم إلى الشيخ لأجل الانتصار له، فلم يجبهم، وقال:

“أنا ما أنتصر لنفسي”.

وأكثروا عليه في القول حتى قال لهم:

“إما أن يكون الحق لي، أو لكم أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني فلا تستفتوني؛ وافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه كما يشاء ومتى شاء”.

السؤال : أين اختفى البكري الصوفي بعد هربه من الدولة ؟

لما طلبت الدولة البكري هرب واختفى عند شيخ الإسلام ابن تيمية لما كان مقيما في مصر حتى شفع فيه عند السلطان وعفا عنه.

المصدر :

انظر: (البدابة والنهاية 14/ 76، والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 400، والعقود الدرية صـ 286، والكواكب الدرية صـ 139) عبر تحقيق د. عبدالسهيلي لكتاب الاستغاثة في الرد على البكري صـ35.

تعليقي :

إذا كان شيخ الإسلام يفعل هذا مع من آذاه قولاً وعملاً، وهو مبتدع بدعة شركية، وقد أفرد الشيخ في الرد عليه كتاباً كاملاً في مسألة الاستغاثة ” الاستغاثة في الرد على البكري ” = وبعد هذا لم يفشِ الشيخُ أمره للدولة ولم يسلمه لها ولم يحتمِ بالسلطان لكي يتمكّن منه ويتبجّح بنشر منهجه بهذه الفرص الذهبية !

فكيف بمن هو أقرب لمنهج السلف من البكري ؟!

فكيف بمن قضيّته عادلة وليس ظالماً فيها كما هو حال البكري؟!

رحم الله شيخ الإسلام، وجعلنا من أتباعه حقاً وصدقاً…

فقه الإعذار التيمي (٧)

يقول ابن القيم عن شيخه ابن تيمية في “مدارج السالكين” (2/345) :

” وكان بعض أصحابه الأكابر يقول : وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئتُ يوماً مبشراً له بموت (أكبر) أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له = فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال :
إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام،
فسروا به ودعوا له وعظّموا هذه الحال منه فرحمه الله ورضي عنه”.

أكبر أعدائه! ..
وأشدهم عداوة وأذى له! ..
وابن القيم يأتيه مهنئاً ومبشراً، وابن القيم وما ابن القيم! رجل رقيق عفيف ورع لا يهنأ بموت أحد إلا فيمن كان مستحقاً ذلك بحق وحقيقة!
ومع هذا كان تعامل ابن تيمية مع هذا المشهد بهذا الإعذار والسماحة وطيب الخلق!

رحمه الله رحمةً واسعة..

شتان بين من ولج العلم والسنة في صدره فانطبع على تعامله وحكمه على الآخرين، وبين ظالمٍ متعدٍّ على خلق الله باسم الدين!

لما استفتح العلامة ابن تيمية – رحمه الله – كتابه “رفع الملام عن الأئمة الأعلام” ذكر مسألة جوهرية تضاف لفقه الإعذار التيمي وهي مركوزة عند أهل الفقه، مستهجنة عند لُقطائه وقُطّاعه:
وهي أنه من صميم تعظيم أهل العلم – خصوصاً المشهورين منهم بالفضل والإمامة – أنهم لا يختلفون قط في ذات وجود النص؛ بمعنى أنه لا يوجد إمام يتعمّد مخالفة النص الشرعي هكذا!
يقول ابن تيمية :

“وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة -المقبولين عند الأمة قبولا عاما- يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته؛ دقيق ولا جليل.
فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه،فلا بد له من عذر في تركه. “

ثم ذكر جامع أعذار الأئمة في ترك العمل بالحديث فقال بعدها :

” وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.”

(رفع الملام عن الأئمة الأعلام – ابن تيمية ٨-٩)

ورحم الله إمامنا مالكا بن أنس حينما سئل – وهو لم يعمل بحديث البيعان بالخيار رغم روايته له في الموطأ – فقيل له:

“يا أبا عبد الله هل عرفت حديث البيِّعان بالخيار !؟
قال له: نعم، وأنت تلعب مع الصبيان في البقيع!”.

وقال له آخر:

“لِم رَويت حديث (البيعان بالخيار) في الموطأ ولم تعمل به ؟
فقال له مالك:
لِيعلم الجاهل مِثلك أنّي على عِلم تركته!”.

(انتصار الفقير السالك – للراعي ٢٢٥)

قال العلامة القرافي -رحمه الله- في شرح تنقيح الفصول منافحاً عن الإمام مالك في تركه العمل بحديث البيعان بالخيار :

“ومما شنع على مالك -رحمه الله- مخالفته لحديث بيع الخيار مع روايته له، وهو مهيع متسع ومسلك غير ممتنع، ولا يوجد عالم إلاّ وقد خالف من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام أدلة كثيرة ولكن المعارض راجح عنها عند مخالفتها، وكذلك مالك ترك هذا الحديث لمعارض راجح عنده وهو عمل أهل المدينة فليس هذا باباً اخترعه ولا بدعاً ابتدعه “.

(شرح تنقيح الفصول – القرافي ١/٤٤٩)

فمن الجهل العريض اتهام المذاهب الفقهية بأنها تتعمد مخالفة النص والدليل ممن يسلكون مسلك الفقه المرقّع من ترجيحات المعاصرين ومع ذلك يتهمون أئمة المذاهب الفقهية بأنهم لا يأبهون بالدليل في تفقههم، وهذا والله عين الجهل.
فالدليل لا يؤخذ هكذا لوحده – حتى لو صح – ، إنما يمر بسلك أصولي طويل حتى يستفاد منه الحكم الشرعي من منطوق ومفهوم، وعام وخاص، وظاهر ومأوّل، ومطلق ومقيد، وخلو من المعارض؛ فالأمر ليس بتلك البساطة التي يتخيلها ذلك المعترض على المذاهب الفقهية جهلا منه!
لذلك كان بعض السلف يقولون : ” الحديث مضلة إلا للفقهاء” ويعنون بذلك ما قاله الإمام ابن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة :

” قال ابن عيينة: ( الحديث مضلة إلا للفقهاء )
يريد أن غيرهم قد يحمل شيئا على ظاهره، وله تأويل من حديث غيره، أو دليل يخفى عليه، أو متروك أوجب تركه غير شيء مما لا يقوم به إلا من استبحر في الفقه”.

(الجامع – القيرواني ١١٨)

وكان عبدالله ابن وهب تلميذ الإمام مالك – وهو رجل محدث ضليع لا يشق له غبار – يقول :

“لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت.
فقيل له: كيف ذلك؟
قال: أكثرت من الحديث فحيرني.
-وفي رواية- :كنت أظن أن كل حديث يروى يُعمل به.
فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان لي: خذ هذا ودع هذا”.

( تقريب المسالك – القاضي عياض ٣/٢٣٦)

فإذا كان هذا هو المحدث العظيم ابن وهب فكيف بمن لا يرقى نعله في الحديث وهو يتهم مذاهب الفقهاء المجتهدين بعدم عنايتها بالحديث؟!

فانظر كيف يستسهل اليوم بعضهم مسألة الاستدلال بالنص متجاوزين بذلك كل ما سبق! ويرفعون عقيرتهم بأنهم إنما يتبعون الدليل ولا يقلدون المذاهب المتبعة، وهم إنما يقلدون جهالات لم يفهموها وعلوما تجاوزوها، ثم ينكرون على غيرهم من أتباع المذاهب الذين اكتفوا بالتقليد الصحيح وعرفوا مقامهم الحق، وفي ذلك يقول العلامة المالكي عليش :

“والتارك للتقليد يقول قال الله أو قال رسول الله مستقلا بفهمه مع عجزه عن ضبط الآية، والحديث ووصل السند فضلا عن عجزه عن معرفة ناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده ومجمله ومبينه وظاهره، ونصه وعامه وخاصه وتأويله وسبب نزوله ولغاته وسائر علومه. فانظر أيهما يقدم قول المقلد قولَ مالك – الإمام بالإجماع – أو قول الجهول قال الله أو قال رسول الله؟! إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.”

(فتح العلي المالك -عليش ١/١٠٠)

يتبع…

السابق
لعبة Subway الشهيرة تدعم الشذوذ الجنسي داخل اللعبة
التالي
فرنسا: جريمة متحف الإنسان و18 ألف من جماجم البشر!

تعليق واحد

أضف تعليقا

  1. التنبيهات : لماذا برز المشروع التيمي في العقيدة؟ – نسائم الأفكار

اترك تعليقاً