تمثّل ” العالمانية ” منظومة عقديّةً واسعة الهيمنة على النماذج المعرفيّة لبِنية التفكير البشري المعاصر على كافة أصعدة الفضاء العام سواء التوجه الأخلاقي أو المنظومة الاجتماعية أو التأسيس الاقتصادي أو التنظير السياسي، و لا زال الجدل مثيراً حولها قبولاً و رداً ؛ مما يستدعي نفض الغبار – بجديّة علميّة – حول معنى المصطلح و دلالة المفهوم و مآلاته و مُحرّكاته الأصليّة ثم الافضاء لاشتباكه مع المعطيات الشرعيّة و مدى التناغم و التنافر معها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” ومن لم يعرف أسباب المقالات وإن كانت باطلة لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم” [ تلخيص الاستغاثة (1/182) ] ، هذا المنهج التيمي العقدي المُحكَم كان منار السبيل و سرّ الإبداع العلمي للباحث الأكاديمي البارز في مبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان الدكتور التونسي / سامي عامري في سلسلة ” الإلحاد في الميزان ” في أطروحة ” العالمانية طاعون العصر، كشف المصطلح و فضح الدلالة ” الصادرة عن مركز تكوين للبحوث و الدراسات في العام ١٤٣٨هـ/ ٢٠١٧م و يقع في ٣٣٧صفحة.
و لعلّ قائلاً يقول :
المكتبة العربيّة ذاخرة بالمؤلفات حول ” العالمانيّة ” فما هو المميّز في أطروحة الدكتور سامي ؟
هناك تداعيات كثيرة جعلت أطروحة الدكتور خارجة عن النّسق الموجود في رفوف المكتبة العربيّة و هي :
1/ إجادة الباحث لعدد من اللغات الحديثة: العربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، و اللغات القديمة: حيث يدرس اللغات الساميّة عامة, واللغتين العبريّة والسريانيّة خاصة, بالإضافة إلى يونانيّة العهد الجديد؛و عليه فقد بلغت مصادر الكتاب الأعجميّة ١٠٩ مصدراً من أصل ٢٢١ من جملة مصادر الكتاب، و كان لهذه الميزة الأثر الكبير في ظهور نتائج جديدة حول المفهوم موضع الدراسة؛ لعلّ أهمها اعتماد الباحث مصطلح “العَالمانية” بدل المصطلح المعروف ” العَلمانية ” كما سيأتي.
2/بحث الكاتب للمصطلح في بطون مراجعه الأصليّة ؛ الأمر الذي لا يتوفّر – غالباً- عند غيره من الباحثين.
3/ بحث الكاتب للعالمانية في سياقها الفكري المتطوّر و هو عصر “ما بعد الحداثة” و لعلها ميزة مشتركة مع بحوث د. عبد الوهاب المسيري و لكن تميّزت أطروحة د. سامي عنها بـ:
4/ الإسقاط الشرعي المتين لمضامين العقيدة على مفهوم العالمانية حول الشهادتين و نواقض الإسلام، وهي ميزة التنوع المعرفي للباحث في العلوم الشرعيّة و الإنسانيّة على حدّّ سواء.
5/ الدراسة المآليّة للعالمانية بحصاد مشروعها الغربي و العربي طوال الفترة السابقة و كون المؤلف من بلاد تونس التي غزتها العالمانية حتى تمركزت فيها طوال فترة استقلالها في عهد بورقيبة و علي زين العابدين جعل الكاتب يرصد المآلات بجِدّة علميّة و عمق إحصائي.
6/ خروج الدراسة بتصحيح عدد من المفاهيم المغلوطة حول “العالمانية” مثل : غلط نسبتها اللغوية للعِلم ” العِلمانية”، و دعاية ظهور العالمانية في الغرب نتيجة محاربة الكنيسة للعلوم الماديّة، و غلط تفسيرها بمعنى واحد و هو فصل الدين عن الدولة، و إدعاء أنها مجرد إجرائيات لا يمكن وصفها بأنها آيدلوجيا أو دين، و الربط الدعائي المغلوط بين العالمانية و الرفاه المادي و التقدم الحضاري، و غلط نفي تعارض العالمانية مع الدين… إلى غير ذلك من المفاهيم الشهيرة المغلوطة حول العالمانيّة التي صححها الباحث و عقد لها ملحقاً في آخر الكتاب لفهرسة مختصرة لأهم الأخطاء الشائعة عن العالمانية.
7/ رصد الباحث للأسباب الواقعيّة لفشل العمل الإسلامي طيلة فترة ما بعد سقوط الخلافة في محاولاته لاستئناف الحياة الإسلامية التي أسماها بـ : ” الخطايا العشر لبعض من وقفوا على الثغر” كما في ملحق الدراسة و هي جديرة بالوقوف عندها و التأمل لكل من تصدّر لهذا المضمار و أهمها : إفراغ الخطاب الدعوي من المضمون العقدي و جعله خطاباً أخلاقياً محضاً بعيداً عن العمق العقدي المُحرّك للتغيير، و تنازع النصر بين سنن الله الشرعيٍة و سنن الله الكونيّة بين آخذٍ بإحداها و تاركٍ للأخرى بما انتهى عند بعضهم بالمصالحة و التآلف المعرفي مع العالمانية ، و الرضوخ للوسائل و تغييب الغايات بما وقف بالعمل الدعوي عن حدود الكلمات و الخطب والمتون و الوعظ دون حراكٍ أو تغيير مباشر بما غيّب مشروع الاستئناف و رضخ للهيمنة العالمانية على الواقع، و توغّل العمل الدعوي في سياج الفجور في الخصومة بين متوسع في الخلاف و مضيق له، و الفِصام النّكِد المتوهم لأهل الدعوة بين المصحف و الصحيفة أي : بين الدراسة الشرعيّة و معرفة علوم الواقع العصريّة مما ولّد حالة مشلولة الأطراف إما في الجانب الشرعيّ أو في الجانب الواقعي؛ مما جعل الدعوة في حالة طوباويّة و رهبانيّة لا تستطيع علاج مشكلات العصر لفقد إحدى آلتي التغيير (علم الشرع و علم الواقع) ، إلى غير ذلك من الأسباب اللازمة للتغيير.
وبحول الله وقوّته أحاول هنا تقريب و تهذيب هذا البحث المحقّق و المُتشعّب؛ لضرورة استظهار مباحثه و شيوع معانيه في المُصلحين أولاً و لعموم المسلمين ثانياً و منهجيتي في هذا التقريب قائمة على :
1/ تلخيص الأفكار المركزية في كل مطلب فضلاً عن كل مبحث فضلاً عن الفصول الرئيسة للكتاب؛حتى لا يحصل خلل في الاختصار لجوهر الكتاب.
2/ قد أذكُر اسم المطلب أو المبحث قبل تلخيصه و قد لا أفعل و أسرده ضمناً ؛ طلباً للاختصار و الربط التسلسلي بين الأفكار.
3/ لا أذكر المصادر في النقولات و الإحصائيات؛ فمن أرادها فليراجع أصل الكتاب.
4/ أُبدي تعليق من شخصي الضعيف أحياناً قليلة و نادرة في بعض ثنايا البحث و أُنبّه على نسبته لشخصي.
5/ هذا التقريب لا يُغني عن أصل الكتاب إطلاقاً، و إنما هو قد يكون مُقدّمة لمن لم يقرأ الكتاب ، أو مراجعة لمن قرأه و هضمه.
و الله المستعان و عليه التكلان …