في هذا اليوم انتقل إلى جوار ربه العالم العلامة والأديب الأريب البروفسيور الحبر يوسف نور الدائم، وهو من علماء السودان في اللغة والأدب والتفسير، رحمه الله رحمةً واسعة وغفر له وأعلى درجته، وقد كتب جمع من أهل العلم واللغة في رثائه مقالاتٍ هي قطعة أدبية في حد ذاتها، ولما كان العلم صيداً ثميناً ناسب أن اقتنص هذه المقالات وأجمعها في مقال واحد، فمثل هذا من المتفرّق الذي يضيع مع الوقت ولات حين مندم، والشيخ مورد عذب وعَلَم أشمّ حُقّ للأدباء والعلماء أن يعقدوا مأدبة علمية في رثائه. وبعد فهذا أوان الشروع في المقصود:
1- رثاء الشيخ د.عصام أحمد البشير:1
في وداع أديب الدعاة وداعية الأدباء العلامة / الحبر يوسف نور الدايم.
بقلم فضيلة الدكتور عصام البشير..
الحزن يقلق والتجمل يردع ** والدمع بينهما عصي طيع
وأخيرا هوي النجم الساطع، و غابت الشمس المشرقة وطوي العلم المنشور، واندك الجبل الاشم وترجل الفارس المعلم. مات علم الاعلام، وشيخ البيان، وداعي الخلق الي هداية الرحمن.
لقد لامني عند القبور علي البكا ** رفيقي لتذراف الدموع السوافك
قال أتبكي كل قبر رأيته ** لقبر ثوي بين اللوي فالدكادك
فقلت له ان الأسي يبعث الاسي ** فدعني فهذا كله قبر مالك
رحل شيخنا المبجل وحبيبنا الاثير أبومحمد بعد رحلة مباركة من علم نافع وعمل صالح، نشأ في بيت دين وفضل وبيئة شاعرة ناطقة، فنسج علي منوالها ودرج، ثم وافي علم العربية وامامها العلامة عبد الله الطيب فأفاد منه علما جما وحظا من الفضل موفورا، وغدا خليفته بلامنازع حتي وافي دراسته العليا في ادنبرا وجعل أطروحته حول الإمام الطبري، وعاد أدراجه الي جامعة الخرطوم التي بادلها ودا بود وأفاء علي طلابه علما نيرا وأدبا جما،وفسر القرآن الكريم كاملا في الإذاعة بالفصيح اضافة الي دروس السيرة النبوية في التلفاز، مع نشاط دعوي واسع في ربوع السودان الفسيح ومشاركات علمية في مختلف الدول والقارات. وقاد ركب الدعوة بحكمة وبصيرة، وقد أوتي شيخنا سماحة في الخلق ورزانة في الطبع، وتواضعا في السجية. موطأ الاكناف،ممهد السبيل، يألف ويؤلف. خفيض الجناح، خفيف الظل، باسم الثغر، لذيذ المفاكهة، له امتاع ومؤانسة، ومداعبة ومؤاخاة. وصدق ووفاء، خلف اسرة من كرام الابناء البررة الذين درجوا علي منواله ونسجوا، وزوجة صالحة هي أم امتثال التي كان حفيا بها وكانت حفيا به، كما كان ثاويا يحمل هموم أمته ووطنه ودعوته بهمة متوثبة، وعزيمة ماضية. فقده جلل ومصابه عظيم.
وماكان قيس هلكه هلك واحد ** ولكنه بنيان قوم تهدما
ودعا أيها الحفيان ذاك الشخص ** إن الوادع ايسر زاد
واغسلاه بالدمع أن كان طهرا ** وادفناه بين الحشي والفؤاد.
إن موت الأكياس هو نقص للارض من اطرافها. ألا رحم الله شيخنا الحبيب وأستاذنا الأثير وصديقنا المبجل أبا لمحاسن والفضائل أبامحمد رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وتقبله في الصالحين وأنزله منازل الأبرار وأخلفه خيرا في زوجته الفضلي أسماء وأبنائه محمد وأبي بكر وعمر وامتثال ووداد والاء ومهاة والاسرة الكريمة الآل الطيبين. اللهم نور مرقده، وطيب مضجعه، وآنس وحشته، وارحم غربته، ويمن كتابه ويسر حسابه وأنزل السكينة علي أسرته وأخلفه وأهله ودعوته ووطنه والامة خيراوإنا لله وانا اليه راجعون.
2- رثاء الشيخ د.عبدالحي يوسف:2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على قضائه وقدره، وإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
أسأل الله تعالى أن يتغمد شيخي الأستاذ الدكتور الحبر يوسف بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جنته، وأن ينور له في قبره، ويفسح له فيه مد بصره، وأن يجعله روضة من رياض الجنة.
هذا الذي صحبت أنفاسه القرآن، قراءة وتفسيراً، وتدبراً وتعليما، عرفته المنابر والمحاضر، واستفاد منه البادي والحاضر، وكانت له قدم صدق في بيان حقائق الإسلام، والمنافحة عنه وتحمل الأذى في سبيل ذلك كله.
تعرفت على الشيخ – رحمه الله تعالى – منذ مجيئي إلى السودان من الإمارات عام 1993 فألِفته وأحببتُه، وأفدت منه علماً غزيراً وأدباً جماً وخلقاً زكيا، في غير تكلف ولا تنطع، وكنت أقصد بيته مستشيراً ومستنيرا؛ فأجد عنده الرأي الصائب والقول السديد
كان رحمه الله وقور الهيئة رقيق الحاشية هادئ الطبع كثير التبسم، يلقاك بوجه باش وما تكاد تراه مكفهراً ولا عبوساً ولا ضيق الصدر، ولعل ذلك راجع إلى زهده في دنيا الناس؛ فما كان بالحريص على التكثر منها ولا التوسع فيها؛ يلحظ ذلك من زاره في بيته في أم درمان؛ حيث المتاع قليل والزاد يسير، مع حرص على تعجيل القرى لضيفه والإحسان إلى زواره. ومكتبه في الجامعة هو مكتبه الصغير منذ أن صار أستاذاً بها أوائل سبعينيات القرن الماضي إلى أن توفاه الله، ومع ذلك جعل الله له مهابة في قلوب تلاميذه، حتى رأيت بعضهم – وهو أستاذ مرموق في الجامعة – لما حضر الشيخ لبعض المحافل تراجع ذلك الأستاذ عن مقعده في الصف الأول من تلقاء نفسه دون أن يطلب منه أحد، من أجل أن يجلس فيه الشيخ المبارك
أذكر أنه حين أشرف عليَّ وأنا أعد أطروحة للحصول على درجة الماجستير؛ فآنس مني شيئاً من تأخر، وأدرك أن ذلك ناتج عن زحمة المحاضرات والدروس والخطب؛ فقال لي (اللي ما خلَّى شي ما سوَّى شي) فأدركت مرامه وأسرعت الخطا حتى حصلت على الماجستير؛ ثم أكرمني الله بإشرافه عليَّ في مرحلة الدكتوراه؛ فما رأيت منه إلا خيراً مع حرص على التيسير؛ حتى إنه ليلاطفك بالقول حين يلحظ خطأ أو تقصيرا، مع طيبة قلب وصفاء نفس؛ حتى تشعر أنه لا يحمل في صدره غلاً ولا حسداً لمسلم
والخلق العظيم الذي تميز به الشيخ رحمه الله هو التواضع فقد كان في ذلك نسيج وحده؛ حتى إنك لتشعر أنك مع أب رحيم أو أخ ودود، فما كان يعبأ كثيراً بالألقاب ولا الرسوم التي اعتادها الناس، مع بر عظيم بأساتذته وشيوخه
وفي سنواته المتأخرة أبى الله إلا أن يعظم له الأجر بفقد أصغر أولاده، الأثير عنده – عزام تقبله الله في الصالحين – حيث مات غرقاً فصبر واحتسب؛ ولعل له بشارة في قوله نبينا صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن بقبض صفيِّه من أهل الدنيا ثم احتسبه عوّضته الجنة)
ثم كان صبره العظيم حين نزلت بالناس تلك الفاجعة وتمكن البغاة الظالمون من أنحاء الخرطوم فأبى أن يبرح بيته أو يغادر مكانه، فمكث فيه إلى أن وافته منيته وحان أجله، أسأل الله تعالى أن يرفع درجته في المهديين ويخلفه في عقبه في الغابرين، ويجعل مثواه جنة النعيم.
وبعد، فهذه كلمات تلميذ في رثاء أستاذه وشيخه، والعزاء لإخوتي الكرام الأستاذ محمد الحبر والدكتور عمر الحبر والأستاذ أبو بكر الحبر وأخواتهم وأمهم الفاضلة الصالحة، جبر الله كسرهم وعظم أجرهم وجمعهم بوالدهم في دار كرامته، والحمد لله رب العالمين
كتبه
عبد الحي يوسف
5/5/14452-
3- رثاء د. أسامة الأشقر:3
إمام العربيّة الحبر يوسف نور الدايم في رحاب الله
كان رجلاً فارع الطول مهيباً عريض المكبين، يطلّ عليك بوجهه الممتلئ الأسمر ولحيته البيضاء المنسدلة بأناقةٍ على جانبي وجهه الباسم، وبثوبه الأبيض اللامع، وعمامته البيضاء المدوّرة على رأسه المعجون بالعلم.
رحل اليوم الأحد 19 نوفمبر 2023 أستاذنا الثمانينيّ الذي كنا ننتظره محاضرته بحبّ، لدماثة خلقه، وطراوة مَلْقاه، وحُسن تأتِّيه لطلابه، وترحيبه المرِح، وتواضعه الجمّ؛ وما دخلتُ عليه مكتبه إلا قام لي هاشّاً باشّاً معانِقاً، وتحضر ضيافتي الحلوة فوراً عند دخولي إليه، وكان كل من يدخل إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة الخرطوم سيلتفت إلى مكتبه الذي كان في أول القسم إلى يسار الداخل إليه؛ كما كنا نزوره في بيته القديم بحي الصقور القديم في الموردة بأم درمان فنجد عنده أكرم الحفاوة وجميل القِرَى.
وهو أحد القلائل النادرين الذين يصحّ وصفهم بأنهم أئمة اللغة وأركانها في عصرنا الحديث، وقد كان سبباً في انخراطي في التدريس الجامعيّ فرشّحني بقوة لأدرِّس في كلية الآداب بجامعة الخرطوم قبل سنوات من تعييني الرسمي في إدارة مطلوبات الجامعة فيها، وناضل من أجل إدخالي فيها، إذ ظنّ أنني من أهلها المخلصين الحاملين لرايتها، وكان مناقِشي الداخلي في الماجستير والدكتوراه، ولا أنسى أنّه اقترح على فريق المناقشة في الدكتوراه أن يجعلوا مدخلهم في اكتشاف أهليّتي واستحقاقي للدرجة أن أشرح لهم مواضع يختارونها من كتاب الله بالاعتماد على الأنماط الصوتية فيها.
ولد أستاذنا في ريف أم درمان الشمالي بولاية الخرطوم في قرية السروراب عام 1940م، وكان يشرح لنا عن دلالة الألف والباء في تسمية قريتهم بأنها لاحقةٌ تدل على النسب في لغة قبائل البجا القديمة، وهي بمثابة الياء المشددة، وكان والده حافظاً لكتاب الله وشاعراً فورث ابنه الحبر عنه هذا، وفتح الله عليه، ففاقه.
انتمى مبكّراً إلى دعوة الإخوان وهو في المرحلة الثانوية، والتقى بنفر منهم تحت شجرة الإخوان في وادي سيدنا بأم درمان، وتعلّق بهم حتى صار مراقباً عاماً لهم، ومثّلهم تحت قبة البرلمان، ورأَس لجنة التعليم فيه.
كان كثير الحفظ لقصائد العرب الجاهلية والإسلامية، وكان يتلوها بطريقة محبّبة مُطْرِبة تشدّنا إليه وتجعلنا نجاريه في الحفظ والتلاوة، ولا تكاد تجد موقفاً إلا ويجد له شاهداً من الشعر يناسبه، لسعة حفظه.
ولأستاذنا الحبر ديوان شعر مطبوع بعنوان (أنفاس القريض) يحتوي على خمس وعشرين قصيدة على نمط القصيد القديم في أسلوبه وألفاظه وتراكيبه وأخيلته وإيقاعه، وحسبك أن تقرأ بكائيّة التي يغالب فيها فاجعة الحزن بالتجلّد والتصبر يرثي ابنه عزّام الذي غرق في النيل:
أملٌ تبدّد فاستحال سرابا … مِنَنٌ كذبْنَ، وكُنّ قبلُ عذابا
وهو يقرض الشعر الشعبي ويقول فيه الغزل والرثاء والهجاء، ويحفظ من قصائد الحقيبة، ويغنّيها أحياناً.
وقد كنا مع طلبة الدراسات العليا في جامعة الخرطوم نتلقى عنه مادة الدراسات اللغوية التي كان يحب أن يجعلها في دراسة النص القرآنيّ، وكنا نذهب معه إلى أستاذه البروفيسور عبد الله الطيب رئيس مجمع اللغة العربية فنكون في فخر المجالس وأطيبِها جنَىً، وكان البروف الطيب يحبّه، ويشير إليه بأنه خليفته، كما كان أساتذة قسم اللغة العربية الكبار يُجلّونه، ومنهم أستاذنا العالم المتمكِّن بابكر البدوي دوشين رحمه الله الذي كان يحكي عنه كثيراً أثناء دراستنا عليه في المدينة المنورة قبل أن نلقاه.
وكنّا نحب أن نسمع خطبه في جامع الحضراب في شمبات بمنطقة بحري كما نحب أن نسمع حلقات برنامجه الإذاعي “سحر البيان” كل جمعة، وتأويلاته الحسنة لكتاب الله في برنامج التفسير، وفي حلقاته التلفزيونية الماتعة التي كل يُطلّ منها على جمهوره.
كان من المتفوقين في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، وأحد مَن نال مرتبة الشرف الأولى في البكالوريوس، وابتعثته الجامعة إلى جامعة أدنبره بأكستلنده لينال الدكتوراه فيها، وكثيراً ما حدّثنا عن زملاء بعثته أستاذنا البروفيسور عون الشريف قاسم، وبروفيسور حسن الشيخ الفاتح قريب الله، و بروف ناصر السيد، وبروف جعفر النوراني…؛ وحدثنا عن زملاء الحركة في الجامعة أستاذنا الدكتور مجذوب سالم البرّ، والقانوني الضليع الدكتور حافظ الشيخ الزاكي، والاقتصادي اللامع عبد الله حسن أحمد… رحمهم الله، ولا يخلو مجلسه من الفائدة والطرفة، ولا تملّ من طول الصمت وأنت تستمع إليه وهو يتدفّق بياناً وحكمةً.
كان رحمه الله رجلاً مبدئيّاً واحد الموقف، ولا يحب ألاعيب السياسة ولا المناورات فيها، وهو معروف بثباته في اختياراته وانحيازاته، مؤمناً بالشورى والديمقراطية، وكان خالص الانتماء لمدرسته الفكريّة وطريقتها، ولم يكن داعية عنف رغم التزامه هذا، ولا يقبل ظلم أحد أو التجاوز فيه من أي أحد، ويقول: “بيننا وبينهم مِلح ومُلاح”، وكان يميل إلى العمل الاجتماعي والثقافي والتربويّ.
كان يحب فلسطين جداً، ويحب رجالها، ويحتفي جدّاً بلقائهم، ولا يكاد يلقاني إلا سأل عنهم واحداً واحداً، واستمع بحرص إلى ما يستجدّ من أخبارها، ولطالما كان قريباً من أي عمل يختص بها، وداعماً ومسانداً.
برحيل أستاذنا الحبر نكون قد فقدنا بركةً من بركات العربية، وانهدّ ركنٌ من أركانها، ولا أظنّ أن التعويض سهلٌ أو قريب.
رحم الله مولانا وأستاذنا البروفيسور الحبر يوسف نور الدايم، وأسبغ على أبنائه وبناته وأهله الصبر والرضا والسلوان، وأعظم أجرهم، وأحسن عزاءهم.
د. أسامة الأشقر
4 – رثاء د.حاكم المطيري:4
وداعا حَبر القرآن
وعلم السودان!
فقد السودان والعالم العربي والإسلامي اليوم عالما ربانيا جليلا وسيدا هاشميا نبيلا من علمائه المحققين وأدبائه المدققين ودعاته المصلحين العلامة الأديب اللغوي والمفسر الخطيب شيخنا البرفسور الحبر يوسف نور الدائم رحمه الله رحمة واسعة وأكرم نزله في الفردوس الأعلى من الجنة وعظم أجرنا فيه وأحسن عزاءنا وآله وذويه ومحبيه آمين آمين..
وقد كنت شرفت باللقاء به والقراءة عليه حين كان يزور ولده صديقنا الداعية الفاضل الشيخ الخطيب محمد الحبر إمام جامع أمانة معاذ الخيرية في مدينة برمنغهام بانجلترا سنوات تحضيري لرسالة الدكتوراه فيها من سنة ١٩٩٧ إلى سنة ٢٠٠٠م وكان رحمه الله -مع ما أوتي من العلم بالقرآن والشريعة وعلومها وما عرف عنه من صلاح دين وتقوى وورع وكرم نفس- بحرا من بحور الشعر والعربية حافظا له فقيها فيه مجيدا في إلقائه يبهر سامعه بجودة حفظه وإتقانه وحسن بيانه مع ما آتاه الله من حسن خلق وأدب هاشمي طبعا لا تطبعا وسجية لا تكلفا..
وكان بيني وبينه رحمه الله معارضات شعرية قبل أن ألقاه وأولها حين أرسل وهو في السودان قصيدة إلى زوجته أم محمد حين زارت ولدها الشيخ محمد في برمنغهام يبث فيها أشواقه إليهما ومطلعها:
أترحل هكذا أسماء عنيّ
وتتركني كأني ما كأني!
فجاءني الشيخ محمد بالقصيدة وطلب مني إعانته على الرد عليها فقلت بل أنا أكفيك الجواب فكانت أول المعارضات بيني وبينه رحمه الله وأولها:
ألا طاب الترنم للمغنيّ
فأهلا بالقريض وبالتغني
إذا ما شاعر السودان غنى
تغنى الخلق من إنس وجنّ
ثم زارنا بعدها في برمنغهام وقرأت عليه أنا وابنه محمد من المفضليات للضبي ومختارات من ديوان المتنبي وقرأت عليه من حفظي بعض المعلقات السبع وغيرها ..
ومهما وصفته فهو فوق وصفي له فهو من نوادر العصر وقد ظلمته جغرافيا السودان كما ظلمت قبله أستاذه البرفسور عبدالله الطيب وقبلهما الشاعر السوداني محمد سعيد العباسي ولو كانوا في مصر لكان لهم شأن وأي شأن!
وإنا وإن فقدنا الشيخ الحبر يوسف رحمه الله فقد خلف بعده من يحيي بإذن الله ذكره ويتبع أثره ولديه الأستاذين الفاضلين الحبرين:
الشيخ محمد الحبر الذي ورث من أبيه الخطابة والاهتمام بالدعوة والعناية بالتفسير وعلومه..
والدكتور عمر الحبر الذي ورث من أبيه العناية بالشعر والعربية والبيان..
واشتركا جميعا في ميراث الخلق والأدب والنبل والمروءة..
فرحم الله شيخنا وأبقى الله في آل الحبر من لا يزال وارثا له وعنه علما وأدبا ودعوة وصلاحا..
آمين آمين
5 – رثاء د.نزار محمد عثمان:5
ومضى الطود الأشم
هي الحياة كما قال أبو الطيب:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ** عما مضى فيها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ** فيسومها طلب المحال فتطمع
في قصيدته التي تقطر أسى وحزنا ودموعا:
الحزن يقلق والتجمل يردع ** والدمع بينهما عصي طيع
إذ لم أفق من خبر موت خالتي؛ حتى فجعت بنبأ وفاة شيخنا بروفسور الحبر يوسف نور الدائم رحمه الله وأعلى مقامه في الفردوس؛ فصار الحال كما قال أبو الطيب أيضا:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ** فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ** تكسرت النصال على النصال.
مضى شيخنا الحبر؛ مضى الطود الأشم؛ القائل:
أكابد واحدًا فردا كطودِِ ** حمي الأنف أقسم لن يُنالا
تكسرت الرياح بحافتيه ** وأهوى دون قمته الرجالا
وقد صدق فقد كان شامخا؛ حمي الأنف؛ بعيدا عنا الدنايا؛ في تواضع وبساطة وزهد؛ كان قمة هوى دونها الرجال
لا يتكلف شيئا؛ ولا تخفي ملامح وجهه ما في قلبه؛ ولا يقول لسانه ما لا يعتقده جنانه
كثير التبسم؛ يهابه الرائي من بعيد؛ ويأنس له من عرفه من قريب.
لم تغيره السنون ولم تبدله الأيام.. شديد الوفاء لأساتذته ولطلابه على السواء .. في أساتذته امتدح شيخه بروفسور عبد الله الطيب بقصيدة عصماء
وفي طلابه امتدح د. محمد شريف بشير بقصيدته “ورقاء” ..
كان وهو أستاذ جامعي ملء السمع والبصر يستخدم المواصلات العامة في تنقله من “بانت” إلى جامعة الخرطوم؛ ويتنقل بين المساجد بها .. حتى منّ الله عليه بسيارة كان يقودها ولده أبوبكر…وكان في الحالين هو هو. لا يأبه لشيء من متاع الدنيا.
قال له أحد القطريين مرة: عندنا مسجد في لندن نريدك أن تكون إماما له؛ وبالمرّة تشوف لندن؛ فابتسم له وشكره وقال له ما معناه: لندن رأيتها قبل أن تولد!
فقد ابتعث لتحضير الدكتوراه في المملكة المتحدة في ستينات القرن الماضي..
قصدته في نهاية ثمانينات القرن الماضي ليكتب لي توصية أقدمها لأحد الجامعات البريطانية للمساعدة في القبول بها ؛ فكتب لي في عجالة رسالة باللغة الإنجليزية بلغة عالية ما زلت أحتفظ بها.
أما نشر العلم فله فيه قدح معلى .. أشرف على عدد كبير من الطلاب من بينهم الشيخ الجليل د. عبد الحي يوسف والشيخ المقرئ د. محمد عبد الكريم؛ وقدم عددا من المحاضرات يصعب إحصاؤه في السودان وخارج السودان؛ وفسر القرآن الكريم مرتين في الإذاعة وفي التلفزيون؛ وله قصائد من عيون الشعر.
ومن جميل مآثره رحمه الله أولاده الذين أحسن تربيتهم فحسبك بمحمد وأبي بكر وعمر وأخواتهم خلقا ونبلا وفضلا.
زرته قبل سنتين أو يزيد في بيته مع بعض الأصحاب فنهلنا من عذب كلامه ووافر إكرامه وطال المجلس فقلت لمن معي: يكفينا هذا لا نتعب الشيخ معنا ونستأذنه في المغادرة؛ فرد: يا حليلكم ونحن لا قنكم .. في بساطة وصدق وكرم. كان هذا هو أخر لقاء؛ واليوم أقول يا حليلك شيخنا وإين نلقاك؛ أسأل الله بفضله أن يجمعنا في مستقر رحمته
وبالعموم هو أكبر من أن تفيه كلماتي بعض حقه في أحسن أحوالي؛ فكيف والزاد محدود؛ والذهن مكدود
رحمه الله وأحسن إليه وتقبل منه
6 – رثاء الشيخ عبدالهادي الخضر المرزوقي:6
*الحبر الحبر *
لقد شيعت الأمة السودانية-اليوم – حبرا عالما,
وأديبا عارفا,
وشاعرا ماهرا ,
وأستاذا مربيا ,
وشيخا مدرسا
وودعت الأمة وارث علم الأستاذ العلامة عبد الله الطيب وابن جامعة الخرطوم البار
يرثى لفقده وفضله
وعلو كعبه في العربية وخدمته لها بما فتح الله عليه , فإنه وارث الأكابر في العربية في فنونها وفروعها والسيرة في دقائقها وتلافيفها
يرثى الشيخ الحبر يوسف نور الدائم -رحمه الله لدرر تفسيره , وغرر أدبه , وخرائد شعره ونكته وتعليمه , وإسقاطات سيرته ,
فقد سحر قلوب الناس بسحر البيان
وشنف الأسماع بلطائف القرآن
فعاش مدرسا وخطيبا
وظل أستاذا وأديبا
فهو أنيس المجالس
ومهماز المحافل
وخطيب المجامع
فقد فقدت الأمة بفقده نحويا بلاغيا , ومتحدثا واعيا
إنه كان كثير الاستشهاد بشعر العرب وأيامها وأخبارها
حسن السرد لأحداثها
ذا دعابة ونغم رخيم
فهو رمز إذاعي كبير
وعلم سواني ضخم , ومفسر متقن
وهو ذخر في الذاكرة السودانية وكتاب حافل في خزانتها
وإن المرء ليحزن لذهاب أمثال هؤلاء الذين كانوا مفاتيح المعرفة, ونجوم العلوم ,وكان حرسا لثغر العربية التي هي لغة القرآن وظرف السنة وإناء الفقه وجراب الفكر وكفى بذلك شرفا وفخرا
فقد ترك ثلمة في موكب العلماء , و فجوة في نخبة المعلمين , وثغرا في جدار الأدب والعربية , وفراغا في الإذاعة , وصدعا في في الجامعة وفجيعة في الأمة السودانية , وشرخا في العالم الإسلامي
والشيخ أفضى إلى ربه -تعالى –
غفر الله له ورحمه وتجاوز عنه
وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والشهداء والصالحين
أعزي أهل بيته وعشيرته فيه والأساتذة والأدباء والخطباء وأعزي الأمة كلها …
7 – رثاء د.أمين حسن عمر:7
أرباب الفصاحة
أبيات هي جزء من قصيدة طويلة رثى فيها بروفيسور الحبر أستاذه عبد الله الطيب لم أر أفضل منها لرثاء بروفيسور الحبر نفسه …عليهما جميعا من الله رحمة واسعة سابغة وفضل من الله عظيم
قال بروفيسور الحبر يرثي بروفيسور عبدالله الطيب:
نلت العلوم أصولها وفصولها * ويلذ منك الشــرح والتفسير
جهل الفصاحة من يظنك مغربا * أحيا الفصاحة سامر وسـمير
إن الفصاحة لا تبارح أهلهـا * لله درك إننــي مســحور
يا أيها المنطــيق إنى وامق * إما نطقت تكشـف المسـتور
إما نطقت لويت عنقا سـاطعا * والقوم صـمت كلهم مأسـور
منى السلام عليك أبين ناطـق * يامن بكتك صـحائف وسطور
خلفت بعدك لوعــة ملتاعة * لم ينج منها جـازع وصـبور
خلفت بعدك دمعة مهــراقة * يامن بكاك النظم والمنثــور
سـقيا لقبرك لايزال تدفقــا * بسحائب الرحمات منك همور
ثم الصلاة على النبي محمـد * مالاح برق أو ترنم صــور
وكتب أيضا:
في رثاء العلامة الحبر8
ابكي عليك وخاطري مكسور
يا أيها العلامة النحرير
يا أيها الحبر العليم بدينه
والشاهدان الفقه والتفسير
خلفت بنت الضاد بعدك أيم
والشعر يبكي والبيان حسير
أبت الفصاحة أن تبارح رحلكم
حتى ارتحلت فرحلها مهجور
ذهب الذي قد كان فلتةَ دهره
فقهاً تدفق والعلوم بحور
إن أبكِ هذا الفذ لست بمبدع
بكت الكماة وكلهم معذور
لهفي على هذا الغريب مفارقا
والحزن في كل الصدور يمور
ابكي على البلد الحبيب وأهله
صاروا شتيتا نازح وفقير
بلد الكرام المكرمين لغيرهم
في كل حال فعلهم مشكور
الطيبين بمثل تربة أرضهم
دار بها النيل العظيم فخور
هي موئل الشرف المؤثل أصله
دارت بها الأيام وهي تدور
وغدا سيعلو في المعالي كعبها
مهما تآزر ناقم وكفور
وكتب أيضاً:
الحبر نور الدائم في ذمة الله
رحم الله البروفيسور الحبر يوسف نور الدائم فقد كان مصباحا من مصابيح التنوير بنور القرآن عسى الله أن يضيء قبره بنور القرآن ويجعل له يوم القيامة نورا….وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
مصابيح التنوير الإسلامي شخوص ورموز
بروفسير الحبر يوسف نور الدائم :
ولد البروفيسور الحبر يوسف في الأول من أبريل 1940 لأسرة متدينة من السروراب في ريف أم درمان الشمالي ،ودرس كل مراحله قبل الجامعة في أمدرمان فدرس المرحلة الأولية بحي العرب والوسطى بأم درمان والثانوية بمدرسة وادي سيدنا والتي ارتبط فيها بالأتجاه الإسلامي ثم كلية الآداب جامعة الخرطوم حيث تخرج ببكلاريوس الآداب بمرتبة الشرف في اللغة العربية وجرى تعيينه بالجامعة وأبتعث لتحضير الدكتوراة في جامعة أدنبرا بالمملكة المتحدة. وكان د. الحبر أبدى تميزا في اللغة العربية لفت إليه إهتمام بروفيسور عبد الله الطيب فأولاه رعاية خاصة تحولت إلى صداقة متينة فبرفيسور عبد الله الطيب كان يرى فيه الخليفة من بعده ومن سوف يمضى على نهجه في الإعلاء من شأن اللغة العربية حتى أنه قال عندما غادر للتدريس في المغرب تركت فيهم الحبر . فبرفيسور الحبر عالم لغة حاذق ،وصاحب فصاحة وبيان ماهر، وهو إلى ذلك شاعر قوي العارضة، ملتزم بطريقة أستاذه عبد الله الطيب وطرائق الشعراء القدامى وهو عليم بالقرآن وعلومه ومفسر متدبر لمعانيه وإشاراته، وقد ظل يقدم ولايزال يفعل برنامج( سحر البيان) في تفسير القرآن يوميا، وتفسيره يجري على طريقة علماء اللغة في التفسير، على نهج الزمخشري وأبن عطية فمدخله ومفتاحه للتفسير هو اللسان العربي المبين.
وبعد عودته من البعثة عمل د. الحبر في قسم اللغة العربية في كلية الآداب حتى صار رئيسا له لكنه كان مداوما على تقديم المحاضرات والبرامج الإذاعية مثل برنامج سحر البيان بالأذاعة وبرنامج أحسن الحديث بقناة الشروق.
وقد كان إلتزم بالحركة الإسلامية في أول سنوات دراسته بالمدرسة الثانوية بوادي سيدنا وظل عضوا بارزا في نشاطها داخل السودان وإبان دراسته في بريطانيا، وهو من مدرسة في الإسلاميين تعطي الأولوية للتكوين والتربية، وقد أنحاز لمجموعة كونها بروفيسور مالك بدري وكانت أتخذت مجموعتها الخاصة بعد مؤتمر 1969، الذي ترجح فيه جانب د. الترابي. ومضي دالحبر بعد المصالحة مع مجموعة شيخ الصادق عبدالله عبد الماجد التي آثرت مبايعة الحركة الأم في مصر وتسمت بإسم الإخوان المسلمين، وورثت الإسم والمنهج الإخواني، الذي كان يميل للعمل الاجتماعي والتربوي. وقد انتخب بروفسير الحبر مراقبا لأخوان السودان بعد تنازل شيخ صادق في 2008 وتنازل بعد انتهاء دورته لينتخب الشيخ على جاويش من بعده. ورغم الخلاف بين إتجاهه مع التيار الآخر إلا أن بروفيسور الحبر رجل له طبع ودود ومزاج معتدل وقد كان يدفع دائما نحو التفاهم و التوافق ثم قاد هذا التوافق بعد تولي المسؤولية وقبل مبدأ المشاركة السياسية وكان قد انتخب عضوا برلمانيا في المجلس الوطني ثم رئيسا للجنة التعليم لدورتين وكان أبان ذلك عضوا بالمجمع الفقهي منذ تأسيسه كما كان عضوا دائما في مجلس أمناء الزكاة.
ونهج بروفسير الحبر الفقهي وسطي يتباعد عن التشديد ويميل للتيسير وتفسيره للقرآن وتأويله يمضي على ذات النهج، وهو أشبه في ذلك بسجيته التي تجانب التكلف وتميل للتلطف وحسن الخطاب.
نفع الله بعلم أستاذنا بروفيسور الحبر نور الدائم وأطال على ظاهر الأرض مكوث ظله، وجعله تراثه العلمي تركة مستدامة صالحة لأجيال أبناء المسلمين، وجعل كل ذلك تثقيلا لميزانه يوم تنصب الموازين، فينادى به بإذن الله من أهل القرآن فيومئذ يسعد أهل القرآن ويرتقون إلى نعيم مقيم.
د. أمين عمر
8 – رثاء د.عامر الخميسي:9
خسرت لغة الضاد اليوم أحد رموزها البررة وأعلامها المهرة فضيلة الدكتور العلامة البروفسير الحبر يوسف نور الدائم وقد كان رحمه الله مفسرا جليلا ولغويا نبيلا وهو أعلم أهل السودان بلغة العرب وتفسير القرآن..
زرتُه مرات عديدة في بيته في حي “بانت” بأم درمان فوجدت عنده الكرم الأصيل والخلق النبيل ولا تكاد تمل من مجالسته وقد لاحظته عين الإسعاد فورد عليه طلبة العلم من كل ناد، وقد برز في المحافل محاضرا وعلى المنابر خطيبا مفوّها وفي المجالس الأدبية متكلما بارعا متفنّنا .
كان له اليد الطولى في توجيه مناهج التعليم في البرلمان فهو العالم المفسر اللغوي الذي هندس مناهج التعليم اللغوية والأدبية والشرعية تحت قبة البرلمان، وكان مصلحا اجتماعيا أجمع عليه أهل السودان بمختلف أطيافهم رغم أنه كان مراقبا عاما للإخوان المسلمين إلا أنه فتح بابه للجميع أبا حنونا ومرشدا موجها لا تغيب عنه الطرفة والكلمة الطيبة، وكان عالما بالقرآن وتفسيره وله على إذاعة أم درمان برنامجه الشيق “سحر البيان” ينفذ منه إلى القلوب ويدهش فيه الألباب.
رأسَ البروفيسور الراحل مجلس إدارة جامعة القرآن الكريم وعلومه بأم درمان، وكان من قبل ولا زال إلى ساعة رحيله أستاذ اللغة العربية الأبرز في جامعة الخرطوم وصاحب كرسيها الأول منذ عقود من الزمن ..
استضافَني مرة لأخطب نيابة عنه في مسجده الذي يخطب فيه في بانت فلما سألتُ عنه قالوا هو خرج إلى ( سروراب ) بلدته التي نشأ بها _ ويكثر في السودان إضافة ( آب) إلى أسماء الأماكن نحو( الدروشاب) ( الفتيحاب) ( سامرّاب) أحياء في الخرطوم وضواحيها_ .
فكتبتُ له حينها ملاطفا له:
( سرورٌ آب) أزمانا عديدة
عليكم شيخنا مُددا مديدة
قلتُ البيت متفائلا بهذه الكلمة الجميلة مبينا معنى مستترا فيها، وفي أحد الأعياد أكملتُ على وزن هذا البيت له معيّدا :
( سرورٌ آب) أزمانا عديدة
عليكم شيخنا مُددا مديدة
فأنتم حبر علمٍ قد أفضتم
علوما في معاهدنا فريدة
غذاك الله بالنعماء دوما
وأبقى كلّ أيامكْ سعيدة
وتبقى دائما دوما معافَى
وخصك بالكرامات العديدة
ونظّر قلبكم بالسُّعد يهمي
كغيثٍ جاد بالنعم المزيدة
نشأ الحبر في بيت النجابة، وبزغ في مغرس اللبابة ومن كان أباه البحر الزاخر فلا غرو إن كان صدفة لدر المفاخر، إذا رأيته رأيت الأنوار الباهرة والفضائل الظاهرة ومن محاسن كلماته وغرر أبياته قصيدته الماتعة في شيخه البروفيسر عبد الله الطيب وقد شرحتُها في كتابي” برؤ المريض في استنشاق عبير أنفاس القريض” وحسبي أني قد بذلت شيئا يسيرا من الوفاء إليه والتعريف به وبأستاذه البروفيسر الطيب.
لقد كان رحمه الله عالما مفردا وكاملا أوحدا مع زهادة وعبادة وتقوى عبادة فخر علماء السودان وصدر فضلائهم لاحت من بروج سمائه أنوار بيانه، وهطلت من سحائب علمه غيوث تبيانه فكان حبرا كاسمه فله من اسمه أوفر الحظ والنصيب، وقد جد في طلب العلم حتى غدا من الأكابر.
يعجبك طيب مفاكهته وحسن منادمته ولطيف عبارته ورقيق إشارته طال في الفضل باعه وأشربت حب المعارف طباعه، نشأ في كنف والده وكان والده محبا للقرآن شاعرا ملهما فتأثر بوالده ونشأ من صغره على مائدة القرآن وأخذ عنه علوم الأدب فغدا شاعرا مفلقا وفارسا منطلقا لا يشق له غبار.
استمعتُ للبروفيسور وحضرت له مجالس كثيرة ولقاءات عديدة وفي اليوم العالمي للغة العربية وأذكر أنه في سنة ٢٠١٨م وجهت إليّ دعوة من منظمي الحفل لإلقاء قصيدة فحضرت وإذا بقاعة البروفيسر عبدالله الطيب مزدحمة غاصة بالحضور وكان فارس ميدان ذلك اليوم تلميذه النجيب وخليفته من بعده الحبر إذ أمتعنا بكل جديد وفريد فيا لله ما أجمل بيانه العذب الذي ينفذ إلى القلوب ويسيح في الأرواح فكان يومها بحرا عجاجا وغيثا ثجاجا فلله دره إذ تبدو شواهد العربية في صدره أحكاما مرقومة وسبائك منظومة، وقد رقت كلماته وراقت ودقت وفاقت.
كأنّ سامعها مذ مال من طربِ
بين الرياض وبين الكأس والوَترِ
وفي أحد الأعياد التي عشتها في الخرطوم أذكر أنه وُجّهت لي دعوة لحضور عيدية نظمها مجلس الشورى فقام البروفيسر من بين الحضور فكأنه القمر صعد على المنبر الأزهر فأتى بما هو أغلى وأندر من الكبريت الأحمر وبعد خروجه استوقفته وقلتُ له أريد منك موعدا في شرح وإعراب المعلقات العشر فسألني من صاحب المعلقة الذي أسلم؟ أجبتُ: لبيد قال: اقرأ معلقته.
فافتتحتها ورغم أنه كان حينها في أواخر السبعينيات من عمره إلا أنه ظل واقفا يسمع لي مناقشا شارحا معلقا قرابة نصف ساعة ومرافقوه يشيرون عليّ_ أن أخفف عنه _ وليس لي من حيلة_ ويشيرون عليه بركوب السيارة _ وما له من صبر _ فألفيته جلدا صبورا صاحب همة وعزيمة يزجي كلامه بالطرف وجميل التّحف،متواضعا لطلابه، بشوشا ضحوكا لأحبابه.
اللهم برد مضجعه وارفع درجته واجعله في عليين..