فقه الدعوة

معضلة اللامذهبية وفخ النص!

النص والدليل واضح! …

لماذا يشنّع الجهلة المعاصرون على الأقوال الفقهية المعتبرة من الأئمة ويتهمونهم بمخالفة صريح الحديث النبوي؟

لما استفتح العلامة ابن تيمية – رحمه الله – كتابه “رفع الملام عن الأئمة الأعلام” ذكر مسألة جوهرية تضاف لفقه الإعذار التيمي وهي مركوزة عند أهل الفقه، مستهجنة عند لُقطائه وقُطّاعه:

وهي أنه من صميم تعظيم أهل العلم – خصوصاً المشهورين منهم بالفضل والإمامة – أنهم لا يختلفون قط في ذات وجود النص؛ بمعنى أنه لا يوجد إمام يتعمّد مخالفة النص الشرعي هكذا!

يقول ابن تيمية :

“وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة -المقبولين عند الأمة قبولا عاما- يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته؛ دقيق ولا جليل.

فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه،فلا بد له من عذر في تركه. “

ثم ذكر جامع أعذار الأئمة في ترك العمل بالحديث فقال بعدها :

” وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:

أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.

والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.

والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.”

(رفع الملام عن الأئمة الأعلام – ابن تيمية ٨-٩)

ورحم الله إمامنا مالكا بن أنس حينما سئل – وهو لم يعمل بحديث البيعان بالخيار رغم روايته له في الموطأ – فقيل له:

“يا أبا عبد الله هل عرفت حديث البيِّعان بالخيار !؟

قال له: نعم، وأنت تلعب مع الصبيان في البقيع!”.

وقال له آخر:

“لِم رَويت حديث (البيعان بالخيار) في الموطأ ولم تعمل به ؟

فقال له مالك:

لِيعلم الجاهل مِثلك أنّي على عِلم تركته!”.

(انتصار الفقير السالك – للراعي ٢٢٥)

قال العلامة القرافي -رحمه الله- في شرح تنقيح الفصول منافحاً عن الإمام مالك في تركه العمل بحديث البيعان بالخيار :

“ومما شنع على مالك -رحمه الله- مخالفته لحديث بيع الخيار مع روايته له، وهو مهيع متسع ومسلك غير ممتنع، ولا يوجد عالم إلاّ وقد خالف من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام أدلة كثيرة ولكن المعارض راجح عنها عند مخالفتها، وكذلك مالك ترك هذا الحديث لمعارض راجح عنده وهو عمل أهل المدينة فليس هذا باباً اخترعه ولا بدعاً ابتدعه “.

(شرح تنقيح الفصول – القرافي ١/٤٤٩)

فمن الجهل العريض اتهام المذاهب الفقهية بأنها تتعمد مخالفة النص والدليل ممن يسلكون مسلك الفقه المرقّع من ترجيحات المعاصرين ومع ذلك يتهمون أئمة المذاهب الفقهية بأنهم لا يأبهون بالدليل في تفقههم، وهذا والله عين الجهل.

فالدليل لا يؤخذ هكذا لوحده – حتى لو صح – ، إنما يمر بسلك أصولي طويل حتى يستفاد منه الحكم الشرعي من منطوق ومفهوم، وعام وخاص، وظاهر ومأوّل، ومطلق ومقيد، وخلو من المعارض؛ فالأمر ليس بتلك البساطة التي يتخيلها ذلك المعترض على المذاهب الفقهية جهلا منه!

لذلك كان بعض السلف يقولون : ” الحديث مضلة إلا للفقهاء” ويعنون بذلك ما قاله الإمام ابن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة :

” قال ابن عيينة: ( الحديث مضلة إلا للفقهاء )

يريد أن غيرهم قد يحمل شيئا على ظاهره، وله تأويل من حديث غيره، أو دليل يخفى عليه، أو متروك أوجب تركه غير شيء مما لا يقوم به إلا من استبحر في الفقه”.

(الجامع – القيرواني ١١٨)

وكان عبدالله ابن وهب تلميذ الإمام مالك – وهو رجل محدث ضليع لا يشق له غبار – يقول :

“لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت.

فقيل له: كيف ذلك؟

قال: أكثرت من الحديث فحيرني.

-وفي رواية- :كنت أظن أن كل حديث يروى يُعمل به.

فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان لي: خذ هذا ودع هذا”.

( تقريب المسالك – القاضي عياض ٣/٢٣٦)

فإذا كان هذا هو المحدث العظيم ابن وهب فكيف بمن لا يرقى نعله في الحديث وهو يتهم مذاهب الفقهاء المجتهدين بعدم عنايتها بالحديث؟!

فانظر كيف يستسهل اليوم بعضهم مسألة الاستدلال بالنص متجاوزين بذلك كل ما سبق! ويرفعون عقيرتهم بأنهم إنما يتبعون الدليل ولا يقلدون المذاهب المتبعة، وهم إنما يقلدون جهالات لم يفهموها وعلوما تجاوزوها، ثم ينكرون على غيرهم من أتباع المذاهب الذين اكتفوا بالتقليد الصحيح وعرفوا مقامهم الحق، وفي ذلك يقول العلامة المالكي عليش :

“والتارك للتقليد يقول قال الله أو قال رسول الله مستقلا بفهمه مع عجزه عن ضبط الآية، والحديث ووصل السند فضلا عن عجزه عن معرفة ناسخه ومنسوخه ومطلقه ومقيده ومجمله ومبينه وظاهره، ونصه وعامه وخاصه وتأويله وسبب نزوله ولغاته وسائر علومه. فانظر أيهما يقدم قول المقلد قولَ مالك – الإمام بالإجماع – أو قول الجهول قال الله أو قال رسول الله؟! إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.”

(فتح العلي المالك -عليش ١/١٠٠)

ومما يحسن مطالعته ما كُتب في بيان كيف أجاب الفقهاء – المالكية كمثال من المذاهب الأربعة – عما يتوهم من مخالفتهم لظاهر الأحاديث في بعض مسائل الفقه، ومنها هذا الكتاب ” أحكام فقهية خالف فيها المالكية الأحاديث الصحيحة والجواب عنها” ، للدكتور: دنان بن عبد الله زهار ، الذي هو رسالة جامعية فيها من جميل جوابات فقهاء المالكية ما يجعل المرء يلتذ بعلم الفقه ويزداد نورا على نور بسعة علم هؤلاء الفقهاء وعظيم عنايتهم بالدليل وفقهه، رحمهم الله جميعاً.

السابق
سؤالان و جوابان حول العالمانية
التالي
شاركنا في الصندوق الأسود

اترك تعليقاً