الإجابة القرآنية

الإجابة القرآنية (الحلقة -1) عن معضلة الانبهار الحضاري في قصة قارون

معضلة العصر الحديث في ” الانبهار الحضاري ” ذابت كما ينذابُ الملحُ في الماء في السرد القرآني لقصّة قارون …

حيثُ ذكر الله ما حباه إياه من وفرة العيش و كنوز الدنيا و سلطانها كما قال :﴿ ۞ إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَیۡهِمۡۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَاۤ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوۤأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُو۟لِی ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَرِحِینَ ﴾ [القصص : ٧٦].

وجعل القرآن القاعدة في التعامل مع الإنعام الحضاري هي ” وضع الآخرة كمركزيّة، و التعامل مع التقدم الحضاري كوسيلة لتحقيق تلك الغاية ” ؛ حيث وجّهها له قومُه فقالوا له :﴿ وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ وَأَحۡسِن كَمَاۤ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ ﴾ [القصص : ٧٧]، فكان ردّه متماهياً مع رد الإنسانويّة المعاصرة عندما تواجه بسؤال الحضارة بأن هذا مستحقٌّ من مستحقاتِ البشر الخارق (السوبر مان)، و منجز من منجزات الماديّة و العقل البشري ، فقال قارون :﴿ قَالَ إِنَّمَاۤ أُوتِیتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِیۤۚ ﴾ [القصص : ٧٨]”أي: إنما أدركتُ هذه الأموال بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب، وحذقي، أو على علم من اللّه بحالي. ” كما قال السعدي في تفسيره، و هو قولٌ في تفسير الآية.

ثم كانت لحظة تشبه لحظتنا العصريّة في الصدام الحضاري بين منجزات حضارة متقدّمة مع حضارة أقل منها تقدماً : ﴿ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِی زِینَتِهِۦۖ ﴾ [القصص : ٧٩]فكان الناس قسمين :

١ – الذين انبهروا بهذا الإنعام الحضاري و تمنّوا لو كانوا مثله{ قَالَ ٱلَّذِینَ یُرِیدُونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا یَـٰلَیۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَاۤ أُوتِیَ قَـٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِیمࣲ ﴾.

٢ – الذين علموا غائيّة الآخرة، و وسيليّة الدنيا في سلّم الشرع ، و أن التقدم المادي دون استحضار قيمة مركزيّة الآخرة لا يُجدي شيئاً عند الله :﴿ وَقَالَ [ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ] وَیۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰاۚ وَلَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ ﴾[القصص : ٨٠].

والمُلفِت لي جداً في هذه القصّة أن الله وصفَ القسم الثاني بـ” العلم ” ! و المُضحِك المُبكِي في الواقع الفكري المعاصر أن من يقع في وصمة الانبهار الحضاري بمنجزات الحضارة الغربيّة يسمّى ” تنويري”، ” عِلماني ! ” – وهي نسبة خطأ لغة واصطلاحاً – ، ” مستنير”… إلخ على عكس التعبير القرآني تماماً ! ، بل القرآن جعل من الذين أُغرقوا في غيابتِ جُبّ المَدَنيّة، و فرِحوا بظواهر الماديّات الحضاريّة = معدومي العلم أساساً ! ، كما قال :﴿ یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ ﴾ [الروم : ٧] ” يعني أمر معايشهم ودنياهم : متى يزرعون ومتى يحصدون ، وكيف يغرسون وكيف يبنون ; قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة . وقال الضحاك : هو بنيان قصورها ، وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها ; والمعنى واحد ” كما قال الإمام القرطبي في تفسيره. و قد قال الله قبلها مباشرةً معنًى عجيباً؛ إذ نفى عن هؤلاء العلم ! ﴿ وَعۡدَ ٱللَّهِۖ لَا یُخۡلِفُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥ [وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ] ﴾ [الروم : ٦].

وهذا غريب – باديَ الرأي -؛ إذ كيف ينفي عنهم العلم ثم يثبته لهم؟!

لخاتمةِ المفسرين الإمام الشنقيطي كلام رائق حول هذه النكتة اللطيفة فقال – في تفسيره ” الأضواء”، أنقله بطوله؛ لأهميته و وجوب تدبر معناه – حيث قال : ” [اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أن يتدبر آية ” الروم ” هذه تدبرا كثيرا ، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس.] وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى الله بها ضعاف العقول من المسلمين شدة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا ، ومهارتهم فيها على كثرتها ، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك ، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق ، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق ، وهذا جهل فاحش ، وغلط فادح . وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة ، وتخفيف لشأنها أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة ، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه ، وما أعظمه ، وما أحسن تعليمه . فقد أوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا يعلمون ، ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دخولا أوليا ، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل ، لأنهم لا يعلمون شيئا عمن خلقهم ، فأبرزهم من العدم إلى الوجود ، ورزقهم ، وسوف يميتهم ، ثم يحييهم ، ثم يجازيهم على أعمالهم ، ولم يعلموا شيئا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية في عذاب فظيع دائم ، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودا من جنس من يعلم ; كما دلت عليه الآيات القرآنية المذكورة ، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل ، أثبت لهم نوعا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره . وعاب ذلك النوع المذكور من العلم ، بعيبين عظيمين : أحدهما : قلته وضيق مجاله ، لأنه لا يجاوز ظاهرا من الحياة الدنيا ، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا ، والعلم بأوامره ونواهيه ، وبما يقرب عبده منه ، وما يبعده عنه ، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي من أعمال الخير والشر . والثاني منهما : هو دناءه هدف ذلك العلم ، وعدم نبل غايته ، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا ، وهي سريعة الانقطاع والزوال ، ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود [ ص: 167 ] أوجه الإعراب في قوله : يعلمون ظاهرا ، أنه بدل من قوله قبله لا يعلمون ، فهذا العلم كلا علم لحقارته . قال الزمخشري في ” الكشاف ” : وقوله : يعلمون بدل من قوله : لا يعلمون ، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا .”

(ا.هـ من أضواء البيان في تفسير الآية من سورة الروم )

فتأمّل ميزان ” العلم ” و معيار صدقه في القرآن الكريم، و قارنه مع معيار العلم المادي في الثقافة الغربيّة = تضمحلْ في قلبكَ إشكاليّة الانبهار بالحضارة الغربيّة !

السابق
تدبرات فكريّة في الإجابة القرآنية (مدخل تمهيدي)
التالي
الإجابة القرآنية (الحلقة-2): رسالة القرآن في إعادة أسئلة الوجود الكبرى في فجر كل جمعة !

تعليقان

أضف تعليقا

  1. قطوف احمد قال:

    بارك الله في قلمك وزادك علما وفهما ياعزيزي 💛♥️

  2. قطوف احمد قال:

    وفقك الله دوما وفتح عليك وذادك علما وفهما💛

اترك تعليقاً