مدخل :
” المسألة فيها خلاف ! ” عبارة دارجة على ألسنة بعض الناس عندما يتم إيراد حكم شرعي لا يرضونه في مسألة ما ؛ فكيف يمكن أن تستخدم هذه العبارة كأداة ليبرالية تستخدمها الليبرالية العربية لتذويب النص وهدم الحكم ؟
بين الحق والباطل :
هناك مساران لهذه المقولة :
- مسار شرعي معروف في المدونة الفقهية يعبر عن مورد من موارد الحكم الشرعي الفقهي وهي مراعاة الخلاف، واشتهر بها مذهب سادتنا المالكية كما ذكر ابن رشد والولاتي وابن عرفة والونشريسي والشاطبي وغيرهم ، وفرّعوا هذا الأصل على أصل المذهب في الاستحسان، وليس لهذا علاقة بالنظر في أصل النص وإلزامية العمل به في الشريعة .
- ولكن هناك مساراً آخر هو مسار أجنبي تماماً عن الشريعة ، بل هو من مزالق هدر النص الشرعي؛ ولذلك تسلكه الليبرالية المعاصرة في نظرها للنصوص أخذاً ورداً في محاولة للحصول على دين موافق لأهواء الحداثة !
بطلان المسلك الليبرالي لهذه العبارة:
ما أن تأتي مسألة شرعية إلا وتجد هذا الشخص يبحث عن خلاف يسعفه ويوافق هواه وغرضه ونظرته المسبقة = حتى يأتي ويحتج -بكل برود- أن المسألة فيها خلاف ولا إنكار في مسائل الخلاف !
وهذا المسلك تخرص وجهل ورقة في الدين، قد انبته له الفقهاء قديماً فكان مما قالوا فيه :
- قول الإمام ابن عبدالبر : «وقد أجمعَ المسلمونَ أنّ الخلافَ ليس بحُجَّةٍ، وأنّ عندَه يلزَمُ طلبُ الدليلِ والحُجَّةِ؛ لِيَتبيَّنَ الحقُّ منه»(1) .
- وقال في «الجامع»: «الاختلافُ ليس بحُجَّةٍ عند أحدٍ علمتُهُ مِن فقهاءِ الأُمَّةِ؛ إلا مَن لا بَصَرَ له، ولا معرفةَ عندَه، ولا حُجَّةَ في قولِه» “(2).
فالإجماع منعقد كما نقله ابن عبدالبر وكذا ابن حزم على عدم صحة الاحتجاج بالخلاف !
- وقد تنبه لهذا المسلك القبيح إمام المالكية في زمانه وصاحب النظر المقاصدي النحرير الإمام الشاطبي فقال في سرد ماتع كأنه يحكي مسلك بعض المعاصرين في هذا الباب : «وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية، حتى صار الخلاف في المسائل معدودًا في حجج الإباحة … فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لِمَ تمنع؟ والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفًا فيها».(3)
- ويقول: «ويقول – أي المخالف -: إن الاختلاف رحمة وربما صرّح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور، أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر، والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له: لقد حجَّرت واسعًا، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك».(3)
- ويقول: «الورع قلَّ، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم، ويتجاسر على الفتوى فيه». (3)
- وقال أيضاً: «صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه، أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال اتباعًا لغرضه وشهوته….. ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلًا عن زماننا، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعًا لشهوته». (4)
من لوازم هذا المسلك القبيح :
ومن لوزام هذا المذهب الفاسد في الاحتجاج بالخلاف :
الترخص في نكاح المتعة، والنكاح بلا ولي، والصرف، والربا ، وهلم جراً … من اللوازم الفاسدة التي تأتي على أصول كثيرة من المحرمات .
وقد نص شيخ الإسلان ابن تيمية على الإجماع على بطلان مثل هذا المسلك فقال في إيراده للازم في التحريم : ” لَزِمَ أنْ لا يَكُونَ حَرامًا إلّا ما أُجْمِعَ عَلى تَحْرِيمِهِ، فَكُلُّ ما اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِهِ يَكُونُ حَلالًا.
وهَذا مُخالِفٌ لِإجْماعِ الأُمَّةِ، وهُوَ مَعْلُومُ البُطْلانِ بِالِاضْطِرارِ مِن دِينِ الإسْلامِ.”(5)
والاحتجاج بالخلاف أمام النص يدخل في باب تتبع الرخص ، وهو باب معلوم عند الفقهاء أنه من أخطر أنواع الضلال ، ومن ذلك قولهم :
وقال أبو عمر ابن عبدالبر معلقا : “هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا.”(6)
ومن الطرائف :
أن أكثر الذين يترخصون بالخلاف تتبعاً لهواهم يرفعون شعار : “الأمر فيه سعة ولا تحرج على الأمة ” = ثم لو أخذت القول المخالف لقوله في نفس هذه المسألة التي قال أنها خلافية سائغة أقام عليك الدنيا ولم يُقعِدها وكال لك من أنواع السباب والشتم وقلة الأدب في الخطاب واتهام الخصم بالتشدد والغلو ما الله به عليم !
أليست المسألة خلافية فرعية (سائغة) على تقريرك ؟!
اللهم إنا نعوذ بك من مسالك الجهل والهوى …
(1) التمهيد،ابن عبدالبر (1/ 165).
(2) جامع بيان العلم وفضله ،ابن عبدالبر (2/ 922).
(3) انظر : الموافقات، الشاطبي (4 / 141 ) وما بعدها .
(4) نفس المصدر السابق (4 / 35).
(5)رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ابن تيمية (1 / 62).
(6) جامع بيان العلم وفضله ،ابن عبدالبر (2/ 185).