فقه الدعوة

حول دعوى الإصلاح المثالي في التاريخ الإسلامي

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ* في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في * مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ

بالمناسبة هذه القصيدة التي تغنى بها أبو تمام في فتح العمورية التي استعصت جدا على المسلمين طوال تاريخهم والتي كان فتحها على يد الخليفة العباسي المعتصم بالله، والمعتصم بالله هو نفسه الذي تولى كبر بدعة المعتزلة وكان يضرب العلماء ممن لا يقولون ببدعة خلق القرآن خلفاً للمأمون أخيه؛ إذ تبنت الخلافة العباسية وقتها الاعتزال الصريح وعادت كل من قابلها من أهل العلم في ذلك.

ومع هذا لا يختلف عاقلان في جهود الخلافة العباسية في نصرة الدين وإقامة سوق الجهاد.

يقول ابن تيمية – رحمه الله – :
” وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا “
(مجموع الفتاوى – ٢٨/ ٢٠٩)

الخلافة الأموية وُجِدَ فيها النصب..
والخلافة العباسية وُجِدَ فيها الاعتزال..
والخلافة العثمانية وُجِدتْ فيها الأشعرية والتصوف البدعي…
ودولة الموحدين والمرابطين وُجِدَ فيهما الأشعرية وبعض الاعتزال..

حتى كثير من الذين يتغنى المسلمون اليوم بأمجادهم وإصلاحهم وجهادهم ومقاومتهم للاستعمار ستجد نقدا موجها لهم على المستوى النظري العقدي كأشعرية وماتريدية أو المستوى العملي في بعض التصرفات القتالية المتوسعة في إباحة الدماء كأمثال:


صلاح الدين الأيوبي فاتح بيت المقدس ..


ومحمد الفاتح فاتح القسطنطينية ..


وحركات الأمير عبدالقادر في الجزائر..


والسنوسية في ليبيا التي منها عمر المختار قائد المقاومة ضد الاحتلال الإيطالي..


وعبدالكريم الخطابي قائد المقاومة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي في المغرب..


وعزالدين القسام قائد المقاومة في سوريا..


والحركة الوهابية الإصلاحية في جزيرة العرب..

وغيرهم كثير وستجد فيهم من بدع الأشاعرة والتصوف البدعي، أو ستجد توسعاً في تأويل الدماء في حقب كثيرة في تاريخ الدول والحركات..

هذا كله في التاريخ الإسلامي ستجده، ولم يمنع ذلك علماء المسلمين من إظهار الخير العميم والإصلاح الكبير الذي قام به من قام في كل هذه الدول والحركات، وكذا لم يمنعهم من إنكار المنكر ورد الباطل الذي يصدر..

فهل تنكر جهودهم الإصلاحية؟!
وهل يعاب من قصد إلى إبراز دور إصلاحي لأحدهم مع عدم الاقرار بمنكره ولا غلطه؛ فالكمال لله وحده؟!

والله ما قال بهذا عاقل قط إلا من جهلُه مدقعٌ بتاريخ الإسلام!

وهل هذا يعني تصحيح كل ما قالوه أو فعلوه؟
كلا، وما هذا بمنهج العلم قط، فكل قول باطل يرد على صاحبه كائنا من كان إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ..

وانظر إلى ابن تيمية الفقيه المنصف الذي أكثر من الرد على (الأشعرية) في بدعهم الكلامية ثم رغما عن ذلك قال فيهم ما نصه :

” ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذاك:

  • منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل.
  • ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل.
  • وخير الأمور أوسطها، (وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين) . والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات. {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالأيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر:10) ” ا.هـ (انظر: درء التعارض(١٠٢/٢-١٠٣)

وبعد هذا تجد من يأبى مجرد مبدإِ البحث في شخصية لها جهودها في المقاومة والإصلاح والدعوة ويبرز جوانب خيّرة فيها، مع إنكاره لما وُجد من غلط ونقده له وعدم رضاه لأي باطل منسوب له، بمنهج بحثي علمي رصين قيمه متخصصون في الباب وحكّموه ، ومع هذا لا يجد في بعض المجتمعات الفقيرة للعلم والأدب والإنصاف حتى مجرد القراءة لبحثه قبل نقده ، بل بعضهم يهدم البحث من عنوانه فقط وهو لم يقرأ صفحة منه قط!
ولله در الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله- لما قال : ‏” نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف “..

فاللهم ألهمنا رشدنا واصرف عنا مسالكَ الجهلِ والظلمِ..

السابق
حول فلسفة الجهاد في الإسلام
التالي
أين هو الخلاف الجوهري مع الدولة الحديثة؟

اترك تعليقاً