فقه الدعوة

الدولة الحديثة وإمكانية التشريع (2)


أطروحة الدولة المستحيلة لحلاق مفيدة من حيث توصيف طبيعة الدولة الحديثة وأنها منتج ذو أصول فلسفية حداثية ذات منزع عقلاني مادي غير قابل للتماهي مع الأطروحة الدينية بالجملة ، ولكنها أطروحة ضعيفة الدراية بفقه الشريعة ومقاصدها وقواعدها العظام وفقه الاستضعاف والنظر في قانون الشريعة الأكبر -كما يقرر العز بن عبدالسلام وغيره- : “درء المصالح وتكميلها ودفع المفاسد وتقليلها “.

نعم لا يمكن أن تطبق الشريعة بكمالها في ظل نظام الدولة الحديثة ، بل قد لا يمكن أن يطبق كثير من الشريعة إلا بالزوال الكلي لنظام الدولة الحديثة وبناء نظام إسلامي جديد ، وهي رؤية الجماعات التكفيرية القتالية في العالم الإسلامي ؛ لذلك جنحوا للسيف مباشرة في رؤيتهم الإصلاحية ؛ لكن نسوا أن البنية المجتمعية للمجتمع المسلم كلها معلمنة بالكامل وما زال النظام العالمي يغذي علمنتها من كل الجوانب الإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية حتى صارت القيمة المركزية لدولتهم المنشودة هي الرفاه المادي لا تحقيق كلمة الله في الأرض، وبالتالي المدافعة لابد أن تكون جذرية أيضاً وذات طابع تدرجي حتى يحصل كثير من الإصلاح المستدام ، لا الإصلاح اللحظي الذي قد تنتشي به أحيانا بعض هذه الجماعات .

الفقه التيمي الدقيق يرى أنه كلما زاد الفارق عن زمان النبوة = قل النور الهادي وازدادت الظلمة ، وليس الحل بالبعد التام عن هذه الظلمة ، وإنما الحل بالإصلاح المتدرج على قدر المستطاع ولو كان في سبيل هذا الإصلاح ارتُكِب شيء من السيئات الدنيا لدفع السيئات العليا ، بل يرى ابن تيمة أن السيئة في هذه الحالة لا يأثم بها الإنسان أصلا ولا تعد في حقه تكليفاً فيقول: “فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَقْتَرِنُ بِالْحَسَنَاتِ سَيِّئَاتٌ إمَّا مَغْفُورَةٌ أَوْ غَيْرُ مَغْفُورَةٍ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ عَلَى السَّالِكِ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَحْضَةِ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْمُحْدَثِ لِعَدَمِ الْقَائِمِ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا . فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ النُّورُ الصَّافِي بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا النُّورُ الَّذِي لَيْسَ بِصَافٍ . وَإِلَّا بَقِيَ الْإِنْسَانُ فِي الظُّلْمَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعِيبَ الرَّجُلُ وَيَنْهَى عَنْ نُورٍ فِيهِ ظُلْمَةٌ . إلَّا إذَا حَصَلَ نُورٌ لَا ظُلْمَةَ فِيهِ وَإِلَّا فَكَمْ مِمَّنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ النُّورِ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا خَرَجَ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِمَا رَآهُ فِي طُرُقِ النَّاسِ مِنْ الظُّلْمَةِ .
وَإِنَّمَا قَرَّرْت هَذِهِ ” الْقَاعِدَةَ ” لِيُحْمَلَ ذَمُّ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ لِلشَّيْءِ عَلَى مَوْضِعِهِ وَيُعْرَفَ أَنَّ الْعُدُولَ عَنْ كَمَالِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا :
تَارَةً يَكُونُ لِتَقْصِيرِ بِتَرْكِ الْحَسَنَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا
وَتَارَةً بِعُدْوَانِ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَلَبَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ قُدْرَةٍ .
” فَالْأَوَّلُ ” قَدْ يَكُونُ لِعَجْزِ وَقُصُورٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ قُدْرَةٍ وَإِمْكَانٍ .
و ” الثَّانِي ” : قَدْ يَكُونُ مَعَ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غِنًى وَسَعَةٍ ،
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاجِزِ عَنْ كَمَالِ الْحَسَنَاتِ وَالْمُضْطَرِّ إلَى بَعْضِ السَّيِّئَاتِ مَعْذُورٌ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } – فِي الْبَقَرَةِ وَالطَّلَاقِ – وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَقَالَ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } وَقَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَالَ : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَقَالَ : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ .” (مجموع الفتاوى 10/364)
فأي إصلاح فهو مطلوب في ظل النظام الديمقراطي الحديث مهما قل أو صغر ، وأي تقليل للشر فهو مطلوب مهما كان ضئيلاً ، وقد رأينا كيف يكون الحال في وزارة ما حينما يتولاها من فيه ولو يسيراً من الصلاح وكيف يكون الحال حينما يتولى الوزارة من يكاد ينعدم صلاحه ؟ بل لو لم يكن مقدوراً إلا مجرد حماية الخير القليل الموجود من الزوال ومنع نقصانه -وإن لم نقم بزيادته ولو يسيراً- = لكان واجباً تحقيق ذلك ما استطعنا إليه سبيلاً .

لذلك فتوى الفقيه العثيمين -رحمه الله – أن الفرد الواحد إذا تمكن من تولي منصب في الدولة حصل به تأثير وفائدة ؛ فقد سئل عن حكم الانتخابات ، فأجاب : “أنا أرى أن الانتخابات واجبة ، يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً ، لأنه إذا تقاعس أهل الخير ، مَنْ يحل محلهم ؟ سيحل محلهم أهل الشر ، أو الناس السلبيون الذين ما عندهم خير ولا شر ، أتباع كل ناعق ، فلابد أن نختار من نراه صالحاً .
فإذا قال قائل : اخترنا واحداً لكن أغلب المجلس على خلاف ذلك .
قلنا : لا مانع ، هذا الواحد إذا جعل الله فيه البركة وألقى كلمة الحق في هذا المجلس سيكون لها تأثير ولا بد ، لكن الذي ينقصنا الصدق مع الله ، نعتمد على الأمور المادية الحسية ولا ننظر إلى كلمة الله عز وجل …. فَرَشِّحْ مَنْ ترى أنه خير ، وتوكل على الله ” انتهى باختصار من “لقاءات الباب المفتوح”.

السابق
معضلة السوبر مان الإصلاحي
التالي
الذكورية الجديدة … بوادر التشكّل ومعالم التطور (1)

اترك تعليقاً